وقفوا عند شواهد القبور، وفي مشارح المستشفيات، وعلى الطرقات يعدون شهداءهم ويودعونهم بدموع منهمرة وكلمات تنم عن آلام وأوجاع عميقة، في مشاهد وداع تنفطر لها القلوب.
«لماذا هجرتموني؟» بذلك التساؤل ودّع إبراهيم حسونة بآهة مكتومة والدموع تترقرق في عينيه أفراد عائلته، بعدما جمعهم في مقبرة واحدة في مدينة رفح.
يقول لـ «القدس العربي»: «الحمد لله إنني وجدت لهم قبراً، واستطعت دفنهم، فإكرام الميت دفنه. هناك جثث لشهداء تحللت جثثها في الشوارع».
إبراهيم، فقد أمه وأباه فوزي وأخويه كرم وحمود وأمونة، وزوجة أخيه كرم، بالإضافة إلى أبناء كرم الثلاثة سوزان وسيدرا، توأم في عمر 7 سنوات، ومالك (سنتان) بفعل صاروخ على البيت الذي نزحت إليه العائلة القادمة من شمال قطاع غزة.
الشاب الثلاثيني، الذي نجا من صاروخ الاحتلال، لوجوده خارج المنزل وقت قصف منزلهم في المنطقة التي قال عنها الاحتلال إنها آمنة، أخذ يشير إلى شواهد قبورهم، ويحكي ذكرياته مع كل فرد فيهم. وعندما استرجع شريط ذكرياته مع أمه التي كانت قلقة دائماً عليه بكى بحرقة، منتظراً إجابة لن تأتي على سؤاله «لماذا هجرتني؟ افتقد سؤالك: لماذا لم تكلمني اليوم؟».
«الصاروخ كان سيئاً جداً» لدرجة أن إبراهيم لم يستطع التفريق بين أفراد العائلة فدفنهم جميعاً في قبر واحد «لم نعرف جثث أمونة من كرم ومن سيدرا. حتى قرط سيدرا الذهبي قد أصابته شظايا الصاروخ، فما بالك بالجثمان».
مشهد وداع آخر
الوحيد الذي تمكن الشاب إبراهيم الذي يهوى التصوير من التعرف عليه هو جثمان حمود، وعنه يقول: «ليس مجرد أخ، هو صاحبي وروحي. أكثر واحد وجعني لأنه كانت جثته ظاهرة، نظرت إليه بحب، ولا أستطيع غير أن أحبه».
في محيط مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، افترشت آمنة عبد العاطي الأرض أمام كفن ابنتها نهال الحافظة لكتاب الله الحاصلة على 98٪ في امتحان التوجيهي، بعد أن أصابها قناص إسرائيلي من أعلى بناية في أحد شوارع المدينة وسط قطاع غزة.
الأم الستينية كانت تنوح على ابنتها بمرارة «يا وجع قلبي فيكِ، حسبنا الله ونعم الوكيل على اليهود الصهاينة الذين حرموني منه».
وتتساءل لـ «القدس العربي» خلال حديثها «بأي ذنب قُتلت الشابة اليافعة وهي لا تحمل صاروخًا أو حتى سكينًا ولا تعرف حماسًا أو سرايا القدس. فقد كانت منكبة على مذاكرتها».
وتضيف: «غدر الاحتلال بحلمها في دخول كلية الطب، لمد يد العون للجرحى والمصابين من قطاع غزة. الله ينتقم منهم الصهاينة».
عائلة بربخ
وبالانتقال إلى أحد شوارع منطقة النصر شمالي مدينة رفح، جلس بعض الرجال والشباب على مصاطب متراصة على شكل مستطيل وفي الوسط منهم على الأرض أكفان 7 شهداء من عائلة بربخ بينهم طفلة بعد أن قصف الاحتلال منزل العائلة بصاروخين.
محمود بربخ، الناجي الوحيد من مجزرة عائلة بربخ وأب الطفلة منال التي حول الصاروخ جسدها إلى أشلاء أصغر من عمرها البالغ 7 سنوات، كان بين الصفوف تائهاً لا يدري على من يبكي «هل على صغيرته أم أبيه (نسيم) أم أمه (صابرين) أم إخوته الأربعة تحسين وسلامة ومحمد وأحمد؟».
الرجل الأربعيني، استعاد وعيه عندما التقيناه وانهمرت الدموع من عينيه، يحكي أن بعض الجثث قد تطايرت من شرفة المنزل إلى الشارع من شدة القصف، فيما نجا هو لوجوده خارج البيت وقت القصف المعتاد من قبل طائرات الاحتلال وقت السحور: قائلاً لـ «القدس العربي»: «حسبي الله ونعم الوكيل في الاحتلال، نسفوا العائلة في غمضة عين».
عائلة العطار
«صاروخين يا نتنياهو. الله المنتقم الجبار» هكذا صرخت عائشة العطار فوق قبور أفراد عائلتها التسعة الذين قتلتهم غارة جيش الاحتلال أثناء نومهم في أحد منازل منطقة الحكر في مدينة دير البلح، تدعو الله على رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.
تشير المرأة خلال حديثها لـ «القدس العربي» إلى قبر ابن عمها الطبيب البشري، وابنة عمتها طبيبة الأسنان، وابن عمها المحاسب، بالإضافة إلى الأطفال الصغار.
المرأة الأربعينية لم تتوقع أن يستهدف الاحتلال أفراد عائلتها الذين يشغلون مناصب مدنية مرموقة، ولا يعرف السلاح سبيلاإلى أيديهم، وطفقت تصرخ «حسبي الله ونعم الوكيل. كل العائلة راحت. لا يوجد عندنا صواريخ ولا حماس» ثم تتساءل: «من يضرب صاروخاً على دكتور أو محاسب؟ فهمونا يا عالم؟ حسبي الله ونعم الوكيل».
بكاء هستيري
ودخلت عزة الشوا في نوبة بكاء هستيري في فناء مستشفى غزة الأوروبي في مدينة خان يونس حزنًا على فقدان 18 شهيداً بينهم 8 أطفال قتلتهم أيضاً غارة للاحتلال على منزلهم في منطقة مصبح شمالي مدينة رفح، بينما تتلفت يميناً ويسار بحثاً عمن تواسيه أو يواسيها فلم تجد «لا يوجد أحد من العائلة حتى أواسيه، ولا شخص».
تشير إلى أن الاحتلال الغاشم قتل جميع أفراد عائلتها بمن فيهم أطفال تتراوح أعمارهم بين سنة وسنة ونصف وثلاثة أعوام «قصفتهم صواريخ الاحتلال فماتوا كي لا يبقى لي أحد في هذه الدنيا، أبي مات وكلهم راحوا».
وفي المستشفى نفسه وقف أحمد الصوفي وسط المعزين ممتقع الوجه يحمل جثة ابنه الرضيع يزن، البالغ من العُمر سنتين وثلاثة أشهر، ثم ودعه بقبلة على جبينه بعد أن فشل الأطباء في إنقاذه من الرصاصة المتفجرة التي أصابت رأسه الرقيق فمزقته، «طلقة محتل لا تفرق بين كبير وصغير.
وداع الرضيع يزن
تغتال البراءة دون تردد». يزن قُتل في خيام مواصي خان يونس، عندما داهمت دبابات الاحتلال المخيم دون سابق إنذار، يقول والده: «الله يرحمه. لا أدري ماذا أقول؟! الاحتلال تمادى في جرائمه. حتى الرضع لا يتوانى في قتلهم».
ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، إذ تقصف طائراته ودباباته محيط المستشفيات والبنايات والأبراج ومنازل المدنيين الفلسطينيين وتدمرها فوق رؤوس ساكنيها، كما يطبق حصاراً كاملاً على القطاع ويمنع دخول الماء والغذاء والدواء والوقود إلى الأهالي.