ي اثنين على الأقل من كتبه الرئيسة (والاثنان يتناولان سيرته الذاتية واعترافاته على أية حال) يتحدث الزعيم الهندي المهاتما غاندي عن الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي معتبراً إياه معلمه الأول في الحياة، والكاتب الذي دله على أن درب النضال الحقيقي هو النضال من طريق اللاعنف باعتباره الوحيد الذي من شأنه أن يوصل صاحبه إلى الانتصار، على ذاته أولاً، وانطلاقاً من ذلك على أعدائه وظالميه.
ومن هنا يخبرنا غاندي أنه أبداً طوال حياته لم يتأثر بمفكر تأثره بصاحب "ملكوت السماوات في داخلكم" الكتاب الذي قرأه مبكراً وغيره تماماً بعدما كان يرى في العنف وحده طريقه لتحرير بلاده من ربقة الاستعمار الإنجليزي، وأول الكتابين هو "كل الناس إخوة" الذي كان غاندي قد جمع فيه عدداً من مواقفه ومنها تلك التحية التي دونها منذ عام 1928 لمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة تولستوي وهي تحية جاء فيها، "لقد كان تولستوي إنساناً حقيقياً أكثر من أي إنسان آخر في زمنه، كان رجلاً أمضى حياته كلها وهو يبحث عن الحقيقة ليضعها موضع التطبيق ما إن يعثر عليها دون أن يسعى ولو مرة واحدة للتخفيف من وقعها، بل على العكس من ذلك إذ إنه كان يصر دائماً على التلويح بها بيرقاً في وجه الجميع دون أدنى التباس أو مساومة،
بحيث أن ما من قوة في هذا العالم تمكنت من إبعاده منها، لقد كان تولستوي نبي اللاعنف الأكبر الذي عرفته أزمنتنا، وما من أحد من قبله أو من بعده عرف كيف يكتب عن اللاعنف أو يتحدث عنه بطريقة تدنو من طريقته العظيمة وبإلحاح يماثل إلحاحه في وعيه وتمثله التام"
دين في رقبة الهندي
لقد عبر غاندي دائماً عن الديْن الذي في رقبته لكاتب الروس الكبير هنا في هذا النص، ولكن كذلك في كتبه الأخرى، ومنها كما ذكرنا في "اعترافاته" ولكن أيضاً في مقالات ونصوص متفرقة أخرى معلناً دائماً أن تولستوي كان واحداً من ثلاثة ملهمين معاصرين طبعوا حياته بطابعهم العميق، وقد روى الزعيم الهندي أنه كان لا يزال عام 1894،
دين في رقبة الهندي
لقد عبر غاندي دائماً عن الديْن الذي في رقبته لكاتب الروس الكبير هنا في هذا النص، ولكن كذلك في كتبه الأخرى، ومنها كما ذكرنا في "اعترافاته" ولكن أيضاً في مقالات ونصوص متفرقة أخرى معلناً دائماً أن تولستوي كان واحداً من ثلاثة ملهمين معاصرين طبعوا حياته بطابعهم العميق، وقد روى الزعيم الهندي أنه كان لا يزال عام 1894،
في ميعة الصبا، محامياً شاباً في جنوب أفريقيا حيث يمضي أيامه في الدفاع عن ضحايا الاضطهاد العنصري الذي يمارسه البريطانيون ضد السكان المحليين هناك، كما يناضل بشراسة ضد قوانين التمييز العنصري حين اكتشف كتاب "ملكوت السماوات في داخلكم" الذي كان تولستوي نشره في العام السابق، وهو ما سيجعله يكتب بعد قرابة أربعين عاماً أنه "في ذلك الحين وإذ كنت أجتاز مرحلة متأزمة بشكل حاد في حياتي مليئة بالشكوك واليأس، وقعت على هذا الكتاب فقرأته كي أخرج من تلك القراءة وقد ترك لدي انطباعاً بالغ العمق. في تلك المرحلة من حياتي كنت لا أزال أؤمن بالعنف، لكني منذ انتهيت من قراءة الكتاب شفيت تماماً من نزوعي إلى ذلك العنف واستعدت إيماني بالـ"أبيمسا" (وهو مبدأ يتحدر في اللغة السنسكريتية من نظرية اللاعنف)". ولاحقاً في سيرته الذاتية سيؤكد غاندي كم أن تلك القراءة أثرت فيه، إذ جعلته يؤمن بصورة نهائية باللاعنف طريقاً لنضاله
حقيقة تاريخية
غير أن الحقيقة التاريخية، التي سيشير إليها كثر من الباحثين ومنهم الباحث الفرنسي آلان ريفالو الذي تناول هذه المسألة بالذات في ملف عن تولستوي نشرته مجلة "ماغازين ليتيرير" قبل نحو عقد ونصف العقد من الزمن، أن الكاتب الروسي لم يستخدم في أي من كتاباته مصطلح اللاعنف أو أي مصطلح قريب منه. فـ"هذا المصطلح أتى نسيجاً هندياً خالصاً في كتابات غاندي بخاصة في عشرينيات القرن العشرين". ولكن في المقابل لا شك أن تولستوي استخدم في كتاباته تعبيراً هو "عدم مقاومة الشر بالعنف" وهو تعبير يخبرنا ريفالو أنه مستقى في الأصل من الكتاب المقدس بحسب القديس متى، حين يقول هذا الأخير "لقد سمعتم العبارة التي تقول "العين بالعين والسن بالسن". أما أنا فأقول لكم لا تقاموا الشرير أبداً وأعني بذلك أن عليكم ألا تلجأوا إلى العنف لمقاومته، بالتالي أدعوكم إلى عدم اقتراف أي فعل لا يتسم بالمحبة. وحتى إذا أُهنتم احتملوا الإهانة ولا تلجأوا إلى العنف أبداً". والغريب في الأمر كما كان تولستوي يقول لخلصائه أن "الكنيسة تعمدت دائماً أن تسكت عن هذا الكلام" الذي يعتبره هو "مفتاحاً سحرياً لا يمكن من دونه فهم أي من الوصايا المقدسة الأخرى"
مراسلات في القمة
ونعود هنا بالطبع إلى العلاقة بين تولستوي وغاندي وهي علاقة قامت حقاً بينهما ولو من طريق المراسلة وقبل عام من وفاة الكاتب الروسي، ففي عام 1909 بادر غاندي بالكتابة إلى المعلم الكبير عبر رسائل كانت مليئة بالتقدير والمحبة والشغف وكانت إجابات الروسي تماثلها في ذلك كله، أما آخر رسالة بعث بها تولستوي إلى مكاتبة المناضل فتحمل تاريخاً يسبق موت تولستوي بشهرين، وكانت رسالة لم يفت الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي كان معجباً بالروسي والهندي إعجاباً متساوياً ويعتبر نفسه حليفاً لهما يسير على دربهما المشتركة، لم يفته أن يعتبرها "إنجيلاً لا عنف حقيقياً". ولقد اعتبر رولان أن المهاتما" إنما كان "يسعى لدى معلمه للحصول على نوع من المساندة المعنوية للنضال الذي كان لا يزال في ذلك الحين يخوضه في جنوب أفريقيا في سبيل تحقيق العدالة للأقليات الهندية القاطنة هناك، وحينها طلب غاندي من تولستوي أن يأذن له بأن يعيد في صحيفته نشر "رسالة إلى هندي" التي كان تولستوي قد وجهها إلى مجموعة من المناضلين الهنود الذين كانوا يكاتبونه معربين له عن إيمانهم بأن ليس ثمة سوى العنف طريق لمقاومة عسف الإمبراطورية البريطانية. ومن اللافت أن تولستوي قد أكد في رسالته تلك أن "الهنود هم أنفسهم مسؤولون عما يحدث لهم من استعباد إذ اختاروا العنف سبيلاً وحيداً وقانوناً للنضال". وهو هنا متأثر كما رأى رومان رولان بقراءته العميقة لكتاب "خطاب حول العبودية الطوعية" للفرنسي إيتيان دي لا بويسي الذي كان صديقاً ومحاوراً لمونتاني، نصح أولئك الهنود بألا يتجهوا نحو أي نوع من أنواع العنف سواء كانت ممارسات إدارية أو عن طريق الأحكام القضائية أو في مواجهة إجبارهم على دفع الضرائب، ناهيك بالتصدي لضروب العنف التي تمارسها قوات الأمن"
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لو كان تولستوي حياً
بالنسبة إلى تولستوي أي عنف يمارسونه هنا كرد فعل لن يكون سوى فخ يُجرّون إليه وسيخرجون من الوقوع فيه خاسرين. فما الذي يجدر بهم أن يفعلوه إذا؟ يجدر بهم أن يتبعوا تلك السياسة القائمة على اللاعنف التي سيتبعها غاندي نفسه في مرحلته الهندية لاحقاً، والتي ستتواكب مع شتى ضروب العصيان المدني وعصيان قوانين السلطات الاستعمارية وممارساتها بصورة سلبية، ونعرف طبعاً، وبصرف النظر عما كان من الممكن لرأي تولستوي أن يكون لو أنه عاش أطول مما عاش، في ما يقترحه، نعرف أن غاندي الذي اتبع تلك السياسة اللاعنفية تحديداً، حقق مبتغاه وحصل لبلاده على استقلالها دون أن يسعى لإراقة نقطة دم واحدة علماً بأن الدم الوحيد الذي تسبب هو في إراقته كثمن لسياسته لم يكن سوى دمه هو نفسه، إذ إن نجاحه في سياسته الحكيمة أثار، كما يحدث دائماً، غيظ المتشددين وغضبهم فأرداه واحد منهم بدم بارد فيما كان والآخرون يحتفلون بالانتصار والاستقلال عن المستعمرين، ومن المؤسف أن تولستوي لم يكن موجوداً هناك هو الذي كان قد رحل عن عالمنا، قبل عقود، وربما يخامره قدر كبير من الاطمئنان وقد بات واثقاً من أن ثمة في العالم الذي يبارحه، مفكراً ومناضلاً كبيراً يتبع دربه ويعمل على هدي أفكاره دون أن يكل أو يمل، بل يضع موضع التطبيق ما كان هو، كاتب روسيا القرن التاسع عشر الكبير وكبير حكمائها، لا يمكنه أن يمارسه: إلا حبراً على الورق وصراخاً في وجه الظالمين
حقيقة تاريخية
غير أن الحقيقة التاريخية، التي سيشير إليها كثر من الباحثين ومنهم الباحث الفرنسي آلان ريفالو الذي تناول هذه المسألة بالذات في ملف عن تولستوي نشرته مجلة "ماغازين ليتيرير" قبل نحو عقد ونصف العقد من الزمن، أن الكاتب الروسي لم يستخدم في أي من كتاباته مصطلح اللاعنف أو أي مصطلح قريب منه. فـ"هذا المصطلح أتى نسيجاً هندياً خالصاً في كتابات غاندي بخاصة في عشرينيات القرن العشرين". ولكن في المقابل لا شك أن تولستوي استخدم في كتاباته تعبيراً هو "عدم مقاومة الشر بالعنف" وهو تعبير يخبرنا ريفالو أنه مستقى في الأصل من الكتاب المقدس بحسب القديس متى، حين يقول هذا الأخير "لقد سمعتم العبارة التي تقول "العين بالعين والسن بالسن". أما أنا فأقول لكم لا تقاموا الشرير أبداً وأعني بذلك أن عليكم ألا تلجأوا إلى العنف لمقاومته، بالتالي أدعوكم إلى عدم اقتراف أي فعل لا يتسم بالمحبة. وحتى إذا أُهنتم احتملوا الإهانة ولا تلجأوا إلى العنف أبداً". والغريب في الأمر كما كان تولستوي يقول لخلصائه أن "الكنيسة تعمدت دائماً أن تسكت عن هذا الكلام" الذي يعتبره هو "مفتاحاً سحرياً لا يمكن من دونه فهم أي من الوصايا المقدسة الأخرى"
مراسلات في القمة
ونعود هنا بالطبع إلى العلاقة بين تولستوي وغاندي وهي علاقة قامت حقاً بينهما ولو من طريق المراسلة وقبل عام من وفاة الكاتب الروسي، ففي عام 1909 بادر غاندي بالكتابة إلى المعلم الكبير عبر رسائل كانت مليئة بالتقدير والمحبة والشغف وكانت إجابات الروسي تماثلها في ذلك كله، أما آخر رسالة بعث بها تولستوي إلى مكاتبة المناضل فتحمل تاريخاً يسبق موت تولستوي بشهرين، وكانت رسالة لم يفت الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي كان معجباً بالروسي والهندي إعجاباً متساوياً ويعتبر نفسه حليفاً لهما يسير على دربهما المشتركة، لم يفته أن يعتبرها "إنجيلاً لا عنف حقيقياً". ولقد اعتبر رولان أن المهاتما" إنما كان "يسعى لدى معلمه للحصول على نوع من المساندة المعنوية للنضال الذي كان لا يزال في ذلك الحين يخوضه في جنوب أفريقيا في سبيل تحقيق العدالة للأقليات الهندية القاطنة هناك، وحينها طلب غاندي من تولستوي أن يأذن له بأن يعيد في صحيفته نشر "رسالة إلى هندي" التي كان تولستوي قد وجهها إلى مجموعة من المناضلين الهنود الذين كانوا يكاتبونه معربين له عن إيمانهم بأن ليس ثمة سوى العنف طريق لمقاومة عسف الإمبراطورية البريطانية. ومن اللافت أن تولستوي قد أكد في رسالته تلك أن "الهنود هم أنفسهم مسؤولون عما يحدث لهم من استعباد إذ اختاروا العنف سبيلاً وحيداً وقانوناً للنضال". وهو هنا متأثر كما رأى رومان رولان بقراءته العميقة لكتاب "خطاب حول العبودية الطوعية" للفرنسي إيتيان دي لا بويسي الذي كان صديقاً ومحاوراً لمونتاني، نصح أولئك الهنود بألا يتجهوا نحو أي نوع من أنواع العنف سواء كانت ممارسات إدارية أو عن طريق الأحكام القضائية أو في مواجهة إجبارهم على دفع الضرائب، ناهيك بالتصدي لضروب العنف التي تمارسها قوات الأمن"
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لو كان تولستوي حياً
بالنسبة إلى تولستوي أي عنف يمارسونه هنا كرد فعل لن يكون سوى فخ يُجرّون إليه وسيخرجون من الوقوع فيه خاسرين. فما الذي يجدر بهم أن يفعلوه إذا؟ يجدر بهم أن يتبعوا تلك السياسة القائمة على اللاعنف التي سيتبعها غاندي نفسه في مرحلته الهندية لاحقاً، والتي ستتواكب مع شتى ضروب العصيان المدني وعصيان قوانين السلطات الاستعمارية وممارساتها بصورة سلبية، ونعرف طبعاً، وبصرف النظر عما كان من الممكن لرأي تولستوي أن يكون لو أنه عاش أطول مما عاش، في ما يقترحه، نعرف أن غاندي الذي اتبع تلك السياسة اللاعنفية تحديداً، حقق مبتغاه وحصل لبلاده على استقلالها دون أن يسعى لإراقة نقطة دم واحدة علماً بأن الدم الوحيد الذي تسبب هو في إراقته كثمن لسياسته لم يكن سوى دمه هو نفسه، إذ إن نجاحه في سياسته الحكيمة أثار، كما يحدث دائماً، غيظ المتشددين وغضبهم فأرداه واحد منهم بدم بارد فيما كان والآخرون يحتفلون بالانتصار والاستقلال عن المستعمرين، ومن المؤسف أن تولستوي لم يكن موجوداً هناك هو الذي كان قد رحل عن عالمنا، قبل عقود، وربما يخامره قدر كبير من الاطمئنان وقد بات واثقاً من أن ثمة في العالم الذي يبارحه، مفكراً ومناضلاً كبيراً يتبع دربه ويعمل على هدي أفكاره دون أن يكل أو يمل، بل يضع موضع التطبيق ما كان هو، كاتب روسيا القرن التاسع عشر الكبير وكبير حكمائها، لا يمكنه أن يمارسه: إلا حبراً على الورق وصراخاً في وجه الظالمين