أخبار البلد - سكن المبدعون الخلاقون في الوجدان الجمعي للناس، ويكونون محطات مهمة في تاريخ أممهم، فمثلا بوشكين يشكل مرحلة حضارية في تاريخ روسيا ومارك توين في الولايات المتحدة ووليام شكسبير في إنجلترا وموليير في فرنسا وأكيرا كوروساوا في اليابان وطاغور في الهند وغابريل ماركيز في التشيلي. عربيا، تحضر أسماء كثيرة لاشك أن من بينها موسيقارا مصريا ملأ دنيانا بأنغام خالدة جعلت منه جزءا من تراث مصر وثروتها الحضارية، إنه الفنان بليغ حمدي الذي سيكون موضوع فيلم تسجيلي جديد يصدر قريبا.
وبعتنا.. مع الطير المسافر جواب.. وعتاب
وتراب من أرض أجدادي وزهرة من الوادي
يمكن يفتكر اللي هاجر
إن له في بلاده أحباب
كثيرا ما تغني أهل مصر بهذه الأغنية التي لحنها بليغ حمدي وقدمتها نجاة الصغيرة، وهي تخاطب من ابتعد بسفر خارج الوطن. كانت الأغنية بشجنها نبضا يعيش في قلب كل مغترب يرحل عن أرض الوطن، وكأن حال منتجي فيلم "الطير المسافر” يؤكدون لروح الفنان بليغ حمدي بعد سنوات طويلة من رحيله بأن له في بلاده أحبابا.
موسيقى بليغ حمدي، تسكن وجدان الشعب المصري والعربي، وهو عنده مبدع ارتبط فنه بأرض مصر وشعبها بكل تفصيلات الحياة. يتفرد بأنه قدم موسيقاه لكل مشاهير الغناء العربي وليس المصري فحسب، غنى من ألحانه مطربون بدءا من أم كلثوم رمز الغناء العربي، وأحمد عدوية رمز الغناء الشعبي، وما بينهما غنى له وديع الصافي وفريد الأطرش وفايزة أحمد ووردة الجزائرية وشادية وعبدالحليم حافظ ومحمد رشدي وميادة الحناوي وعزيزة جلال وسميرة سعيد وجورج وسوف وعفاف راضي وعلي الحجار وفي الإنشاد الديني سيد النقشبندي وغيرهم.
ولقد شكل وجود الموسيقار بليغ حمدي منعطفا خاصا في تاريخ الموسيقى في مصر والوطن العربي، وأجمع كل موسيقيي العصر على أنه أحدث ثورة موسيقية خاصة ساهمت في ترسيخ الذائقة الموسيقية لكل العرب ووسمها بحالة خاصة اسمها بليغ حمدي.
بليغ والسينما
هو الذي نشأ في منطقة شبرا في القاهرة، التي جمعت كل أطياف المجتمع المصري، صنع مجدا موسيقيا راسخا، وتعامل مع التراث بخبرة العارف فتمكن من إحياء العديد من أغاني المورث الشعبي بشكل عصري مختلف وجاذب. وأثنى عليه عظماء أهل الفن في مصر. فقد قال عنه الشاعر مأمون الشناوي إنه "أمل مصر في الموسيقى”، بينما قال عنه الموسيقار محمد فوزي إنه "يقدم ألحانا ستعيش ستين عاما للأمام”، أما محمد عبدالوهاب فقال إنه "دائما ما يدندن ألحانه بينه وبين نفسه”. وما جعل من اسم بليغ حمدي قامة فنية عملاقة تهتم بها طاقات إبداعية مصرية خلاقة، كان منها فريق العمل الذي أوجد مشروع فيلم "الطير المسافر” الذي أنتج عنه وسيعرض قريبا في القاهرة.
ظهر بليغ حمدي في السينما مبكرا من خلال مشاركته في فيلم "الوسادة الخالية” في عام 1957، وكان من بطولة عبدالحليم حافظ وقدم فيه أغنية "تخونوه” من زجل إسماعيل الحبروك والتي تميزت بطروحات لحنية جديدة، ثم تتالت الأعمال السينمائية التي قدمها على مسار سنوات طوال منها: "لن أعود” ثم فيلم "أحلام البنات”، كما قدم الموسيقى التصويرية في السينما وكانت البداية مع فيلم "في لبنان” للمطربة صباح وحمل اسم كرم الهوى في عام 1967 تبعه فيلم "شيء من الخوف” ليتابع العمل مع صباح ويقدم لها أغاني فيلم "كانت أيام” وغنت فيه "عاشقة وغلبانة” و”يانا يانا”. كما قدم أفلاما شهيرة مثل "نار الشوق” و”خمسة شارع الحبايب” و”الأبرياء” و”أضواء المدينة” و”عندما يغني الحب” و”دنيا” والفيلم الحربي "أبناء الصمت” والفيلم الشهير ليوسف شاهين "عودة الابن الضالّ” وكان فيلم "نور العيون” آخر مشاركاته بصفته ملحنا في السينما.
بليغ حمدي شكل منعطفا خاصا في الموسيقى العربية، وأجمع كل موسيقيي العصر على أنه أحدث ثورة موسيقية
وفي دراما التلفزيون قدم بليغ حمدي مسلسلا قديما حمل اسم "الوادي الكبير” في عام 1974 لحن فيه أغاني وردة الجزائرية التي شاركها الغناء فيه المطرب الراحل صباح فخري، كما قدم مقدمة المسلسل الشهير بوابة الحلواني التي غناها علي الحجار، وقدم في المسرح والإذاعة عشرات الأعمال منها مسرحية ريّا وسكينة لشادية وسهير البابلي.
ويأتي "الطير المسافر” فيلما تسجيليا يشارك فيه بليغ حمدي - الغائب الحاضر- بأجواء حياته وإبداعه، يشاركه فيه عفاف راضي وعلي الحجار، وتم تصويره في عدة أماكن كان يرتادها الموسيقار وكذلك بعض المراكز الدراسية التي تعلم فيها.
الفيلم سيعرض قريبا في القاهرة وهو من إنتاج المركز القومي للسينما في مصر، كتبته الناقدة فايزة هنداوي وأخرجه حسين بكر، كما شارك فيه مهندس الديكور شادي العناني ومساعد المخرج محمد حسين وكاميرامان مارمينا شلبي ومديرة إنتاج منيرة فهيم ومنتج منفذ مجدي الشحري ومنفذ إنتاج عاصم سعيد ومهندس صوت إبراهيم عبدالعزيز وخالد محمد إبراهيم.
الجديد في فيلم الطير المسافر أنه عن بليغ حمدي وليس له، تم تداول فكرة إنجازه قبل أعوام، وقد ترجمت هذه الفكرة إلى التنفيذ الناقدة السينمائية المصرية فايزة هندواي، فكتبت سيناريو الفيلم وبدأت رحلة تأمين منتج له، وقد واجه الفيلم عثرات إنتاجية حتى تبلورت فرصة إنتاجه عبر جهة حكومية مصرية هي المركز القومي للسينما، وقام بإخراج الفيلم حسين بكر.
ينتمي بليغ حمدي إلى عوالم إبداعية مختلفة، ساهمت في تكوين مخزونه الفني الذي قدمه في موسيقاه، خاصة فيما يتعلق بالتراث والتجديد الذي قدمه، تتحدث فايزة هندواي مؤلفة الفيلم لـ”العرب” عن مشروعها "ركز الفيلم على تعامل بليغ حمدي مع التراث كونه من أهم الملحنين الذين تعاملوا مع التراث في مصر، وصاغه بشكل جديد يناسب أي مغنّ أو مطرب قدمه. فما قدمه لمحمد رشدي يختلف عما قدمه لعبدالحليم حافظ”.
وعن المحطات الهامة في مسيرة بليغ حمدي تتابع هنداوي "سيوثق الفيلم المحطات الهامة في تاريخ الموسيقار الفني منذ البدايات مع فايدة كامل وعبدالحليم ثم مرحلة أم كلثوم، وهي التي وضعته على منصة الكبار وعرفت به لدى الجمهور بشكل أوسع، كما أنها كانت مرحلة هامة لأم كلثوم، كونها دخلت بها عالم الشباب والأجواء الجديدة من خلال ألحانه، ومن ثم مرحلة عبدالحليم حافظ وشراكته الطويلة معه. وسيظهر في الفيلم متخصصون يقدمون تحليلات موسيقية عن الأعمال التي قدمها بليغ حمدي، وسيكون التحليل مبسطا لكي يفهمه الناس ولن نذهب فيه إلى لغة المصطلحات الموسيقية العميقة التي لن يعرفها الجمهور العادي، فهدفنا تعريف الناس بهذه القامة الكبيرة”.
ويعرف عن بليغ حمدي شغفه بتقديم المواهب الجديدة، وهي المسألة التي أدت إلى وجود العديد من مشاهير الفن العربي، فقد قدم ميادة الحناوي وعزيزة جلال وآخرين.
تقول هندواي في ذلك "بليغ حمدي اكتشف الكثير من الفنانين ودعمهم، منهم عفاف راضي وعلي الحجار ولهما عنده مكانة خاصة، وهما مشاركان معنا في الفيلم. عفاف راضي كانت تغني بشكل أوبرالي وبعض الملحنين قالوا إن صوتها لا يصلح للغناء الشرقي، لكن بليغ طوع صوتها واستطاع به تقديم الألحان الشرقية، وبعده لم يعرف أحد كيف يوظف هذا الصوت للغناء الشرقي. كذلك الأمر مع الفنان علي الحجار الذي تابعه في برنامج الموسيقى العربية في التلفزيون، فأعجب بموهبته وبدأ بتدريبه وتابعه في التسجيل الإذاعي وقدمه في الحفلات وهو الذي صنع حالة علي الحجار”.
ويعرف عن بيلغ حمدي أنه عاش حياة شخصية شديدة الخصوصية، فكان شخصا عصيا على التأقلم مع أي ظرف، يعيش حياته بشكل غير منظم تملأ وقته حالة السهر والسفر والتفرغ التام للعمل.
وعن مصاعب توثيق هذه الحالة في فيلمها تقول هنداوي "لم تشكل حالته الشخصية صعوبة لي، كون الفيلم تسجيليا وليس روائيا. فالفيلم التسجيلي يعتمد على التوثيق، ونحن أتينا بأشخاص عاصروه ليقدموا معلومات يعرفونها عن فنه وطباعه، منها العيوب المزاجية التي كان يعرف بها، نحن نؤرخ ونوثق لشخصية هامة، وكان لزاما علينا التأكد من هذه المعلومات، لذلك قدمنا شخصيات عاصرته أوردت شهادات بشكل محايد، كل الأشخاص الذين سيظهرون في الفيلم عاصروه وعرفوا المعلومات بأنفسهم ولم تنقل لهم ومن هنا تأتي أهمية الفيلم”.
إنتاج حكومي
بدأت رحلة إنتاج الفيلم قبل سنوات، حيث تقول فايزة هنداوي "بدأ التحضير للفيلم منذ عام 2019 عندما قدم فيلم "أمير البهجة” عن محمد فوزي والذي أخرجه حسين البكر، وطرحت الفكرة من وقتها كوني أعتبر بليغ حمدي الملحن المفضل عندي والذي أرى أنه لم يأخذ حقه من الإعلام. والدي كان مهتما به وكان يعرّفني باسم الملحن قبل المطرب عندما يحدثني عن أغنية، شغفه بموسيقى بليغ حمدي نقله لي، وكوني لم أدرس الموسيقى لم أعرف ما سأفعل، حتى جاءت فكرة الفيلم فقدمناه إلى المركز القومي للسينما، لأن ميزانية العمل ستتكلف مالا كثيرا، حيث سندفع إلى جمعية المؤلفين والملحنين مبالغ عن حقوق التأليف”.
وتابعت "قبلها كنا صورنا يوما واحدا مع شقيقة وجدي الحكيم صديق بليغ حمدي الأقرب، وهي التي أقام في بيتها عندما كان في أوروبا، لذلك تعرف الكثير عنه، كانت ستسافر خارج مصر فصورنا معها ربحا للزمن، وصورنا مع ابن شقيقه، ثم تركنا العمل فترة زمنية، بعدها جاءت كورونا وأوقفت كل شي. منذ شهرين أخبرنا المركز القومي للسينما بأن نتابع العمل على الفيلم وهذا ما كان، والمركز يوفر كل الإمكانات المتاحة، وأرى أن تقرر جهة حكومية عمل فيلم عن بليغ حمدي هو حالة صحية وهي التي يجب أن تقدم هذه المادة كون بليغ ثروة وطنية هامة في حياة كل المصريين”.