أخبار البلد - شغل تزايد حوادث القتل الدامية الرأي العام المصري الأيام الماضية، وتعددت الأسباب والوسائل المستخدمة والتفسيرات في كل منها، لكن اتفق كثيرون على أنها تدق ناقوس الخطر، ويمكن أن يصبح تكرار الجرائم الفردية ظاهرة عامة تؤثر على المجتمع وتفتح الباب أمام المزيد من العنف، فتصاعد مؤشرات الجرائم يعكس أزمة حادة تتطلب بحوثا ودراسات وتوصيات لفهم أبعادها.
أثارت حالة التعاطف المجتمعي مع طالبة المنصورة التي ذبحها زميلها مؤخرا أمام جامعة حكومية بمحافظة الدقهلية، شمال القاهرة، جملة من التساؤلات حول الأبعاد التي تأخذ الشباب نحو الميل إلى العنف، في ظل قصور واضح من جهات عديدة تتعامل مع تزايد معدلات الجرائم باعتبارها روتينا يوميا، يمر دون تدخلات عاجلة يمكن أن تسهم في تقويض انتشار القتل الناجم عن إحباطات والتعرض لضغوط مختلف.
لا تقتصر حوادث هذا النوع من العنف على مصر فقط، فبعد يومين فقط شهد الأردن حادثا شبيها، حيث أطلق شاب الرصاص على طالبة جامعية وأرداها قتيلة من دون أن يغيب عن ذهنه مصرع الفتاة المصرية، الذي لا تزال تفاعلاته المجتمعية مستمرة، على الرغم من حكم القضاة بإعدام قاتل الفتاة المصرية.
تصاعد معدل العنف
تضاعفت معدلات الجريمة في مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، وارتفعت بنسبة 45 في المئة وفقا لتصنيف "نامبيو” العالمي لقياس معدلات الجرائم، والذي صنفها في المرتبة الثالثة عربيا، والرابعة والعشرين عالميا في جرائم القتل.
واتفق عدد من أستاذة علم الاجتماع الذين تواصلت معهم "العرب” على أن ثالوث المخدرات والبطالة والفقر من الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الجرائم، وساعدت في خلق بيئة قابلة لتمدد العنف وانتشاره وتقويض قدرة الحكومة على ضبط الأوضاع الأمنية ومواجهة الجرائم الفردية بحسم، وهو ما يجعل هناك حالة من الانفلات قد تترك تأثيرات سلبية كبيرة على تماسك المجتمع المصري في المستقبل.
شهدت مصر العديد من الأحداث الدامية والمتفرقة الأيام القليلة الماضية، بدأت بذبح طالب زميلته أمام مقر جامعة المنصورة، وقيام شاب آخر برمي نفسه بسيارته من أعلى جسر الجامعة نفسها، وانتحار ثالث قفزا من أعلى برج القاهرة الذي يبلغ ارتفاعه نحو 190 مترا، بجانب قيام ربة منزل بضرب زوجها حتى الموت في منطقة المرج، في شرق القاهرة، وإطلاق شاب النار على نفسه في حي المعصرة بحلوان في جنوب القاهرة، والعثور على جثة داخل كيس بلاستيكي في مدينة الإسماعيلية، شرق القاهرة.
ونكأ قيام أحد أعضاء السلطة القضائية بقتل زوجته الثانية ومحاولة إخفاء جثتها الكثير من الجروح المجتمعية، حيث ينطوي الحادث على مجموعة من المحددات التي تتجاوز المعالم الظاهرة لرجل أراد الخلاص من زوجة أرادت ابتزازه، وكشفت عن سلسلة القضايا التي تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ.
تعاملت النيابة المصرية مع هذه الأحداث وفقا لمقتضيات القانون، فأمرت بحبس ربة منزل لمدة أربعة أيام على ذمة التحقيق في اتهامها بقتل زوجها بسلاح أبيض، من جراء علاقته مع أخرى بمنطقة المرج، وفتحت التحقيق في واقعة قيام شاب يبلغ من العمر 23 عاما بإنهاء حياته بإطلاق النار على نفسه في منطقة "ركن فاروق” في حلوان، لمعاناته من أزمة مالية وحالة نفسية سيئة.
وفتحت تحقيقا في واقعة العثور على شاب يبلغ من العمر 31 عاما في الكيلو 2 بطريق الإسماعيلية، شمال شرق القاهرة، مصابا بطعنة قاتلة وملقى داخل كيس بلاستيكي على جانب أحد الشوارع الرئيسية، حيث نُقل جثمانه إلى مشرحة مستشفى الحميات تحت تصرف النيابة.
ولا تزال التحقيقات مستمرة مع القاضي الذي قتل زوجته، وزاد من وطأة الجريمة أنها حظيت بمتابعة واسعة في الشارع المصري.
بيئة تؤجج العنف
أشارت أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، بشمال القاهرة، هالة منصور إلى جملة من الأسباب المجتمعية قالت إنها تسهم في إيجاد بيئة مواتية لممارسة العنف في مصر، أبرزها الأوضاع الاقتصادية التي خلقت حالة من العدوانية في الشارع وانعكست على تعاملات الأفراد ورغبتهم في الاستحواذ على كل شيء، وباتت هناك حالة من العنف بين الإنسان ونفسه وبين الآخرين، وهو أمر تفرضه الظروف الضاغطة على الكثير من الفئات التي تجد في العنف ملاذا للتعامل مع أزماتها.
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن الحالة الاقتصادية لها روافد سلبية على انتشار المخدرات، ودائما ما تكون عبر أصناف زهيدة الثمن، لكن مدمنيها لا يستطيعون توفير ثمنها ويلجأون إلى ارتكاب المزيد من الجرائم بحثا عن الأموال، كما أن الظاهرة العامة المسيطرة على الحوادث الأخيرة تؤكد أن مرتكبيها في حالة من اللاوعي بسبب المخدرات أو تعرضهم لأزمات نفسية تجعلهم أشخاصا غير أسوياء.
وذكرت منصور أن غالبية مرتكبي الجرائم الأسرية يعانون من اختلالات عقلية تسببها المخدرات أو تكون نتيجة معاناتهم مشكلات نفسية وضغوط حياتية تدفعهم إلى ذلك، نتيجة عدم قدرتهم على مواجهة الصعوبات في لحظة معينة، وهؤلاء يتأثرون بحالة العدوانية والآنانية المفرطة في الشارع المصري والظاهرة في التعاملات بين الأفراد.
وتشير معلومات تداولها نواب في البرلمان المصري أخيرا إلى أن نسبة تعاطي المخدرات بلغت 10 في المئة من إجمالي المواطنين، بما يزيد عن 10 ملايين مواطن، وأن نسبة الإدمان بلغت 3 في المئة وفقا لإحصائيات صندوق مكافحة وعلاج الإدمان.
وتواجه الحكومة المصرية اتهامات بعدم تشديد عقوبات تعاطي المواد المخدرة، والتي لا تزيد فيها مدة الحبس عن سنة واحدة وغرامة لا تزيد عن 150 دولارا، ما انعكس سلبا على انتشار أوكار التعاطي في المناطق العشوائية، وأضحت تشكل تهديدا للملايين من المواطنين الذين يتعرضون لحوادث سرقة وتحرش، تصل في أحيان عدة إلى القتل بحثا عن أثمان زهيدة يوفرها المتعاطون لدفع نفقات الجرعات.
غالبية مرتكبي الجرائم الأسرية يعانون من اختلالات عقلية تسببها المخدرات أو تكون نتيجة معاناتهم مشكلات نفسية
ولم تفلح خطط الحكومة لمكافحة المخدرات في إحداث تأثير ملموس على انخفاض معدلات التعاطي والإدمان، وبدا واضحا أن هناك أزمة معقدة أكبر بحاجة إلى إيجاد حلول فاعلة تضمن نجاح الحملات التي تطلقها من حين إلى آخر، وتبدو كمن يحرث في الماء نتيجة قلة تفاعل المدمنين معها وغياب الثقة في ما تبثه.
لدى هالة منصور قناعة بأن هناك أزمة ثقافية تحمل أبعادا مرتبطة بأداء الحكومة على المستويات الأمنية، لأن الأشخاص الذين يحملون صفات العنف والبلطجة يمكن وصفهم بأنهم "أسياد المجتمع”، وأن ممارسة البلطجة أكثر قدرة وحسما في الحصول على الحقوق، ما جعل هناك تفسيرات عدة للعنف بعد أن أصبح الانحراف أمرا معتادا.
يؤمن البعض من علماء الاجتماع بأن الخطاب الديني الذي يصور العذاب دون تسليط الضوء على الرحمة والمغفرة وتصوير مشاهد العذاب بلا تصويب لسلوكيات المواطنين، يعد طرفا متهما بالترويج للعنف، لأن متلقيه يميلون للمزيد من العدوانية، وأن الشباب الذي يعاني من أوضاع اقتصادية صعبة أو يواجه شبح البطالة ليست لديه قدوة يمكن أن تصوب سلوكياته، وينجرف نحو استخدام العنف.
مجموعة القيم المحورية
قال أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الفيوم، بجنوب القاهرة، عبدالحميد زيد إن ظواهر الفقر والجهل والمرض تنتشر في المجتمع منذ قديم الأزل، وكانت هناك منظومة متزنة تمنع هذا الكم من الانحرافات الحالية، ما يشير إلى اختلاف مجموعة القيم المحورية التي تتحكم في سلوك المواطنين.
ويرجع الأمر إلى الخطابات التي يتلقاها المواطنون عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات التي جعلت الكثير من الجرائم يشاهدها الناس بشكل معتاد يوميا، ما يخلق حالة من الألفة والاعتياد على رؤية العنف.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن المخدرات عامل رئيسي في التأثير على تصرفات شرائح اجتماعية تعاني من الفقر والبطالة، وهناك سياق كامل يقود إلى القيام بسلوكيات مشينة خلال تنفيذ الجرائم المختلفة، ما يؤدي إلى زيادة معدلات جرائم الذبح واستخدام الأدوات الكهربائية في تقطيع الجثث والتخلص منها.
◙ تكرار الجرائم الفردية يمكن أن يصبح ظاهرة عامة تؤثر على المجتمع وتفتح الباب أمام المزيد من العنف
◙ تكرار الجرائم الفردية يمكن أن يصبح ظاهرة عامة تؤثر على المجتمع وتفتح الباب أمام المزيد من العنف
في أواخر مايو الماضي، أقدمت أم بإحدى قرى محافظة الدقهلية على ذبح أبنائها الثلاثة، وحاولت بعد ذلك التخلص من حياتها بعد مرورها بحال نفسية سيئة.
وقبلها بأيام وقع ما يسمى بمذبحة في منطقة "الريف الأوروبي” في مدنية الشيخ زايد بمحافظة الجيزة القريبة من القاهرة، أقدم فيها شخص على قتل خمسة أفراد من أسرة واحدة، إثر خلافات حول زواجه من إحدى بناتها.
وشهدت منطقة شبرا الخيمة (شمال القاهرة) في أبريل الماضي ذبح شاب لآخر وسط الشارع، وأظهرت المعلومات أن الحادثة جاءت بسبب لهو الأطفال ومشاجرة حدثت بينهم، وقبلها شهدت محافظة الإسماعيلية جريمة أثارت الجدل معروفة إعلاميا بواقعة "سفاح الإسماعيلية”، بعد أن أقدم شاب على ذبح آخر وسط الشارع، ثم فصل رأسه عن جسده وسار حاملا لها بين المارة.
جاءت هذه الجرائم في وقت لم تحقق فيه الحكومة المصرية نجاحات ملموسة على مستوى مواجهة البطالة في العامين الماضيين، وبقيت عند معدل 7 في المئة تقريبا.
كما أن معدلات الفقر التي تراجعت إلى 29 في المئة مازالت مرتفعة، لأنها لم تنخفض سوى 2 في المئة، والأهم أن تلك الأرقام تنعكس على الحالة الاقتصادية للمواطنين، فأي انخفاض ما لم يصطحب معه تغيرا ملموسا في المستوى الاقتصادي، سوف تظل ارتداداته السلبية قوية في مجتمع يتجاوز سكانه نحو 110 ملايين نسمة.
ورفض أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي) حسن سلامة تحميل الحكومة بمفردها مسؤولية زيادة الجرائم، ورأى أن المجتمع شريك في زيادة العوامل التي تؤدي إلى العنف.
وذهب إلى أن ثمة حاجة إلى دراسة كافة حالات القتل والذبح على نطاق فردي لكل واقعة ومعرفة أسبابها بصورة موضوعية، وأن وحدة رصد العنف بالمركز القومي تقدم تقارير مستمرة للحكومة للتعامل مع هذه النوعية من الأحداث، بهدف إيجاد حلول عاجلة يقتنع بها الرأي العام ويدعمها.
ولفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن الحكومة متهمة بالتقصير الثقافي، وبحاجة إلى أن تعيد مواقفها من دعم الفنون وتطوير التعليم وتوعية الأسرة، وتسرع بمشروعات تحسين جودة الحياة في المناطق العشوائية والشعبية والقرى والنجوع، لكن على الجانب الآخر هناك حالة من التفكك غير مسبوقة في المجتمع، فالتماسك الأسري والعائلي تراجع، ويساعد ضبطه في اتخاذ إجراءات مفيدة لنجاح خطط الحكومة.