السؤال هو ما إذا كان قد سافر لأن الطرف الإسرائيلي وعد مسبقاً بتقدم معين على صعيد المفاوضات السياسية أو إذا كان يريد إسماع رسالة سياسية معينة، التي ستسمع بصورة أكثر موثوقية وحزم عند قولها بشكل مباشر، في لقاء وجه لوجه، وليس عن طريق نقلها من خلال نبأ صحافي. مع الأخذ في الحسبان سياسة إسرائيل اليمينية، يصعب التصديق بأن اللقاء يتضمن بشرى سياسية معينة من زاوية رؤية القيادة الفلسطينية، التي تخاف على مكانتها ووجودها. لذلك، الكفة تميل نحو التقدير بأن عباس ذهب من أجل نقل رسالة سياسية على صيغة: الوضع على شفا الانفجار. ويمكنكم التحدث معي اليوم، وما زلت في مكانة ومنصب يمكن أن تدفع بعملية سياسية تمنع هذا الانفجار. ولكن الوقت ينفد، سواء قبل الانفجار أو قبل حدوث تغيير في مواقفنا.
المشكلة أنها رسالة يُسمعها عباس والمقربون منه مرة كل بضعة أشهر، إذا لم يكن بتواتر زمني أقصر. ولم يعد الجمهور الفلسطيني مهتماً لتحذيراته بشكل جدي. هذا هو نفس الجمهور الفلسطيني الذي يطالب نحو 75 في المئة منه باستقالة عباس، حسب الاستطلاع الأخير للرأي العام الذي أجراه المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والمسوحات في رام الله. من المحتمل أن القيادة الفلسطينية ترى في غانتس الوزير الكبير الوحيد في حكومة اليمين الحالية المستعد للإصغاء إلى هذه التحذيرات، لذلك بادر عباس بحسن نية وتحمل هذه المخاطرة الأخرى على صورته، التي تتمثل بالذهاب إلى بيت من في يراه الجمهور الفلسطيني مجرم حرب ومسؤولاً عن قتل آلاف الفلسطينيين.
للقيام بمهمة التخمين حول طبيعة اللقاء بين غانتس وعباس، يجب الاستعانة بلقاء آخر جرى في مكتب عباس في رام الله، الخميس الماضي. فقد استدعى إلى مكتبه نحو 100 من الأكاديميين والمفكرين والكتاب والصحافيين وومثلين من المجتمع المدني الفلسطيني. وقال أحد المشاركين كانت التوقعات بأنه سيتحدث عن بشرى مهمة تتعلق بالشؤون الداخلية والسياسية الفلسطينية، ولكن الجميع تفاجأوا من حديثه طويلاً عن أصل اليهود الأشكناز (الخزر الذين تهودوا) وحول الفرق بين الأشكناز واليهود الذين أصلهم من الدول العربية والدول الإسلامية. وحسب أقوال هذا المشارك، قال عباس في مرحلة معينة بأنه قد مل من الجمود السياسي، وأن المجلس المركزي لـ م.ت.ف سيجتمع بعد شهرين لاتخاذ قرارات مهمة وحاسمة. الأحد الماضي، كرر وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، بهذا القدر أو ذاك، هذا التحذير – الوعد. في مقابلة مع "صوت فلسطين” الرسمي قال إن "القيادة الفلسطينية لن تنتظر فترة طويلة إزاء تنصل إسرائيل من الاتفاقات”. وأن المجلس المركزي سيجتمع في نهاية كانون الثاني 2022 وسيتخذ قرارات مهمة. ولم يذكر أي تفاصيل عن القرارات. ولكن هذا المركز قرر في السابق، في تشرين الأول 2018، بأنه سيوقف التزامه باتفاقات أوسلو بسبب استمرار البناء في المستوطنات، ولكنه قرار لم ينفذ.
بعد يوم على إجراء المقابلة، التقى المالكي في القاهرة نظيريه الأردني والمصري لمناقشة الطريق المسدود بين الإسرائيليين والفلسطينيين وطرق الخروج منه. وقيل في بيان رسمي بعد انتهاء اللقاء، بأنه تمت مناقشة إمكانية "فتح أفق سياسي من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل… (على أساس دولتين لشعبين في حدود الرابع من حزيران 1967)”. نشرت وسائل إعلام فلسطينية أن الأمريكيين ينظرون بشكل إيجابي لهذا اللقاء.
ليس صدفة أن مصطلح "أفق سياسي” ظهر في تغريدة حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية، الذي شارك أيضاً في لقاء القاهرة ولقاء غانتس مع رئيس المخابرات العامة ماجد فرج. ورغم ضبابيتها وطبيعتها الدلالية إلا أن أقواله تؤكد على البعد السياسي للقاء، على الأقل من ناحية الطرف الفلسطيني، هذا خلافاً للبعد الاقتصادي الأبوي للتسهيلات، الذي تم التأكيد عليه في تقارير إسرائيلية. "اللقاء تحدّ وفرصة أخيرة قبل الانفجار وقبل أن نجد أنفسنا في طريق مسدود”، قال الشيخ. "هذه محاولة جدية وجريئة لشق مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية، ينهي نشاطات التصعيد ضد الشعب الفلسطيني”. في تغريدة أخرى، قال الشيخ إنه "تمت مناقشة إيجاد أفق سياسي يسبق أي حل سياسي”.
الصياغة ضبابية بما فيه الكفاية كي يستنتج القراء الفلسطينيون بأن كان هناك اتفاق بين الطرفين على فتح مسار سياسي، أي أن تقدماً ما قد تحقق. الصحافي محمد ضراغمة، من وكالة أنباء "الشرق” يفصل، استناداً إلى تقرير سمعه من شخصيات رفيعة فلسطينية، الطلبات/ المطالب الفلسطينية التي طرحت في اللقاء، منها إعادة الصلاحيات الأمنية الفلسطينية في المدن مثلما كانت قبل الانتفاضة الثانية (أي تقييد الاقتحامات العسكرية الإسرائيلية في مناطق "أ”)؛ وتوسيع المساحة التي للسلطة الفلسطينية فيها صلاحيات أمنية (أي استئناف عملية إعادة الانتشار للجيش الإسرائيلي ونقل مناطق مصنفة "ب”، وهي التي للسلطة الفلسطينية صلاحيات تخطيط وبناء دون أي صلاحيات أمنية، إلى تصنيف "أ”؛ وإعادة رجال الأمن التابعين للسلطة الفلسطينية إلى جسر اللنبي. مع ذلك، أكد ضراغمة أن هذه الشخصيات الرفيعة لا تتوقع حدوث اختراق سياسي. فقد قالوا إن غانتس الذي تحدث عن خطوات تبني الثقة لم يعط أي إشارة لاحتمالية العودة إلى مسار سياسي في هذه المرحلة.
بعد اللقاء، تركت الشخصيات الفلسطينية الرفيعة للجهات الإسرائيلية موضوع الإبلاغ أولاً وبشكل علني عن تسهيلات أو عن بادرات حسن نية، بالأساس إعطاء مكانة مواطنة لستة آلاف من الأزواج الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وزيادة عدد تصاريح الحركة لرجال الأعمال والشخصيات المهمة في السلطة. لقد سبق أن قال نائب وزير الشؤون المدنية، أيمن قنديل، علناً، لنشطاء حركة "لم الشمل من حقي” بأنهم سيسمعون عن قائمة طويلة جديدة للحاصلين على مكانة المواطنة، في نهاية الأسبوع. يدل هذا الأمر على وجود اتفاقات مسبقة بين الطرفين في شؤون مهمة للفلسطينيين، لكن لو نفذت إسرائيل اتفاقات أوسلو لما كانت هذه الأمور ستصبح موضوع حوار بين الرئيس ووزير الدفاع الإسرائيلي.
استطلاع كانون الأول الذي أجراه مركز أبحاث السياسات والمسوحات، وجد أنه رغم الصورة المتدنية لـ”فتح” والرئيس عباس، إلا أن 60 في المئة من المستطلعين معنيون بخطوات تبني الثقة مع إسرائيل، التي ستحسن شروط الحياة اليومية لهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. لذلك، حتى لو كان هدف عباس من اللقاء سياسياً خالصاً فإن المكارم الاقتصادية التي وُعد بها إذا تم تطبيقها، أمر مهم من أجل بقاء القيادة الفلسطينية التي يترأسها. هذه رسالة لا يدركها غانتس وحده، بل ووزراء آخرون أيضاً.
بقلم: عميرة هاس
هآرتس 30/12/2021