كانت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبن أول من تلقّف خبر فوز معسكر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. على الفور طالبتْ باستفتاء مماثل في فرنسا وفي دول الاتحاد، ولم تتردد في وصف الحدث بـ «انتصار الحرية».
ليس في ذلك أي مفاجأة فحماس لوبن للانفكاك عن الاتحاد الأوروبي دفعها إلى التهليل والمساهمة بفعالية، وبشكل مبكر، بحملة الخروج البريطانية.
لوبن التي تقول «يجب أن يتم سؤال دول أخرى عن علاقتها بالاتحاد الأوروبي»، أعلنت أنها ترى في «القوى المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشراً قوياً لدينامية ربيع الشعوب». واعتبرت أن «لدى فرنسا، على الأرجح، أسباباً تفوق بكثير أسباب الإنكليز للخروج من الاتحاد الأوروبي». لقد ظلّت لوبن تعلن على الدوام أن الاستفتاء البريطاني سوف يعزز أهداف الأحزاب اليمينية، والمتشككة بالاتحاد الأوروبي. أما نائبها في رئاسة حزب «الجبهة الوطنية»، فلوريان فيليبو، فكتب هو الآخر، في تغريدة على «تويتر» مهللاً بالنصر «حرية الشعوب تفوز دوماً في النهاية! برافو للمملكة المتحدة.. الدور علينا الآن».
آلان جوبيه، رئيس الوزراء السابق، المنتمي ليمين الوسط قال كذلك إنه يريد إجراء استفتاء، ما اعتُبر «تحوّلاً عن تصريحات أدلى بها فيما سبق، ولكن على مشروع جديد للاتحاد تتعاون فيه فرنسا وألمانيا ودول رئيسية أخرى».
أما ساركوزي، فهو يتحدث عن مبادرة ألمانية فرنسية لإنقاذ الأوروبيين الأربعمئة وخمسين مليوناً، وقد حذف منهم سلفاً عدد سكان المملكة المتحدة.
لا يمكن القول إن نتيجة الاستفتاء البريطاني قد أثارت شهية نسبة كبيرة من الفرنسيين لاستفتاء مماثل، فمن الواضح أن هناك أرضية جاهزة لانتعاش الشكوك والأسئلة ومبادرات الخروج. مركز «بيو» للأبحاث، ومقرّه واشنطن، قال إن فرنسا هي الدولة التي شهدت أكبر انخفاض لشعبية الاتحاد الأوروبي هذا العام. وهذه صحيفة «دي فيلت» الألمانية تنقل عن دراسة استراتيجية في وزارة المالية أن ألمانيا «تشعر بقلق من احتمال سعي فرنسا وهولندا والنمسا وفنلندا والمجر لترك الاتحاد الأوروبي بعد تصويت البريطانيين». هذا عدا عمّا أشارت إليه «فرانس برس» من «لائحة أزمات» طويلة بين باريس ولندن على امتداد عمر الاتحاد الأوروبي.
وقد استُعيد أثناء الجدل حول مصير بريطانيا في الاتحاد موقفان، الأول لشارل ديغول الذي ظلّ يرفض دخول بريطانيا إلى لاتحاد الأوروبي معتبراً إياها «خادمة للولايات المتحدة»، إلى طرفة جاك شيراك الذي أغضبتْه مطالبة رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر، خلال قمة أوربية العام 1988، بخفض المساهمة البريطانية في ميزانية السوق. عندما قال شيراك، الذي لم ينتبه إلى أن مكبّر الصوت أمامه كان مفتوحاً «ماذا تريد مدبّرة المنزل هذه ايضاً؟».
«لائحة الأزمات» طويلة إذاً، ليس أولها دور بريطانيا التاريخي في التأثير على قرارات الاتحاد وتعطيلها، بتأثير من علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة، إلى»المناوشات» حول السياسة الزراعية المشتركة. إلى أزمة اللاجئين المستديمة، المتمثلة بمخيم كاليه في الشمال الفرنسي.
الخوف على فرنسا
وهنا بالذات، في مشكلة اللاجئين، مأزق كبير للمملكة المتحدة، فالمهاجرون هم أحد أبرز أسبابها للانسحاب، لكن من قال إن الوضع الجديد سيجعلها في مأمن؟ خصوصاً أن لاجئي كاليه، المدينة الفرنسية التي تضمّ النفق الموصل إلى الضفة البريطانية، كانوا ورقة تلوّح بها الحكومة الفرنسية. وكان وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون قد حذّر خلال قمة فرنسية بريطانية من أن باريس ستلغي الاتفاقات الحدودية مع لندن في حال انسحابها من الاتحاد الأوروبي. ما يعني أن الطريق سيكون مفتوحاً أمام آلاف اللاجئين.
إلا أن أحداً من ممثلي الحكومة الفرنسية لم يأت على ذكر كاليه بعد إعلان نتائج التصويت، ما يعني أن هذه الورقة لم يحن وقتها بعد، وأن هناك حرصاً على أن يتم «السقوط» بأقل جلبة ممكنة، بأقل قدر من المشاكل.
نحن إذاً، وحسب محلّلين فرنسيين، أمام موقفين واضحين كلاهما يؤيد الانسحاب البريطاني، الأول من زاوية رفض الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بانسحاب مماثل، والثاني لأنه يعتبر بريطانيا معيقاً، وأن الاتحاد سيكون أفضل من دونها.
ولا يغيب عن البال هنا الموقع التنافسي التاريخي بين البلدين، حسب ما يشير دومينيك مويزي، من «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية» لـ «وكالة فرانس برس» «بريطانيا هي في الواقع البلد الأقرب إلى فرنسا على الصعيد التاريخي، وإن هذا القرب يؤدي إلى تنافس كبير». وهنا لا يخفى الترحيب بفكرة أن البنوك قد تضطر لنقل أعمالها من لندن إلى فرانكفورت وباريس، ما يعني انتقال آلاف الوظائف من حي المال والأعمال في لندن إلى هاتين المدينتين.
لكن حتى الساعة يبدو أن خوف الفرنسيين على مستقبل فرنسا نفسها يطغى على خوفهم على فكرة الاتحاد الأوروبي، حيث البلد مهدّد بصعود اليمين، الذي أنعش الانسحاب البريطاني أحلامه، كما هو مهدّد بأسئلة كبيرة مماثلة لتلك التي تعصف بمحتلف دول الاتحاد، الهجرة واللاجئين والإرهاب، يضاف إليها الآن ما سيثيره انسحاب المملكة البريطانية من تهديدات اقتصادية وأمنية بالدرجة الأولى.
هذا ما جعل تصريحات الرئيس الفرنسي أولاند، مشغولة بالمستقبل أكثر من أن تضرب على وتر معاقبة بريطانيا، كما لدى تصريحات مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، والتي يراد منها أن تكون درساً عسيراً لدول في الاتحاد تطالب بالاستفتاء على الانسحاب.
أولاند تحدث عن أولويات «الأمن والاستثمار من أجل النمو والوظائف والانسجام المالي والاجتماعي وتعزيز منطقة اليورو». وأكد» أنه سيتم الحفاظ على علاقات بلاده الوثيقة مع بريطانيا في مجال الدفاع». كما قالت مصادر في وزارة الدفاع الفرنسية، حسب تقرير لـ «رويترز»، إن فرنسا تخشى أن تخفّض بريطانيا حجم طموحاتها العسكرية فور خروجها من الاتحاد الأوروبي لتترك جارتها لتولي دور القوة الكبيرة الوحيدة بالمنطقة. هذا مثال فقط عن أن الاتحاد الأوروبي، وفرنسا، سيبقى بحاجة بريطانيا كشريك أساسي وكبير.
هدوء إذاً في فرنسا، حَذَرٌ على المستوى الرسمي، وتصريحات صحافية عن الـ «حدث أليم» والـ «خطر» و«ابتكار أوروبا أخرى»، لكن الخوف ليس على الاتحاد، ولا على بريطانيا، بل على فرنسا نفسها.