بقلم : صابرين فرعون
يقوم الكاتب بخط سيرة ذاتية للمعتقلين خلف القضبان ، موضحاً ما يقع عليهم من ظلم منذ لحظة اعتقالهم ، متحدثاً عن تفاصيل السجن البشعة وتوثيق طغيان وجرائم السجان ، مما يحذو بهذا العمل ليكون ضمن أدب السجون ...
من خلال لغة شاعرية وسلسة اعتمدت المونولوج الداخلي ، نتلمس موسيقاها بين الجمل السردية ، وتركز على الوصف النفسي لشخصية البطل في العمل الأدبي ، يقوم الحديثي برسم عوالم روايته التي يسكب فيها صوته كراوي في شخصية البطل نفسه ، فتتحايل الأصوات وتتداخل في صراعٍ أيديولوجي بصيغة الأنا first person narrator" " مما يمنحها بعداً واقعياً ذا مصداقيةٍ ..
يعتمد الكاتب على مزج الحواس ودمجها ، كما حين وضع عنواناً داخلياً لإحدى المذكرات "أرى بأذني" مؤكداً على حالة الخوف والارتياب والإرهاق العقلي الذي يتعرض له السجين مستجدياً الواقع في البحث عن مساحة من الأمن ، يمسك من خلالها زمام الأمور ، يتعرف الأشياء التي حوله وهو معصوب العينين .. وبرغم أن هذا العنوان يحمل ذاتية الصوت إلا أنه يعبر عن طرفيّ المعادلة ، السجين والسجّان ، اللذين يتصيدان لبعضهما لحظة افتراس .. هذه الطريقة من تراسل الحواس في الابتكار والتصوير والتي تعتمد على التخييل تدعو القارئ لترجمة الجملة المقروءة والتجاوب معها شعورياً ..
يعتمد الكاتب أيضاً الدلالة اللونية في عكس الفعل ورد الفعل على الظرف المشروط بهيمنة السجان وإخضاع السجين ، فمثلاً : يُلزم الطرف صاحب القوة بارتداء بزة للسجن ، لحظة الاعتقال فرضوا على البطل الاغتسال وارتداء بدلة صفراء ، والأصفر يحمل عدة دلالات / أهمها : خبث وحقد السجان وذبول السجين والتجربة المُرة التي تنتظر السجين ..
وعندما يتم نقله للسجن المركزي ، سجن أبي غريب ، يفرضون عليه ارتداء بدلةٍ حمراء ، والبدلة الحمراء في السجن ملابس الإعدام والموت وهي تختلف بحسب نظام كل دولة ، وهنا تؤكد على حتمية المصير الذي ينتظر "نهاد" الأسير ..
أما عن الرمزية ، تعددت استعمالاتها في هذا العمل ، فقد جاءت تشكل العجينة السردية في المضمون والشكل ، يستخدمها الراوي في تجسيد الفكرة الوجودية التي يحاكيها وقد ظهر ذلك في المفارقة المستخدمة في المذكرة التي حملت عنوان "سارتر وإليوت" والتي تؤكد على عدم الاستقرار والثبات في تبني إحدى النظريتين ، فسارتر يؤكد أن "الجحيم هم الآخرون" ، وقد كان نهاد يهرب من اجتماعياته خارج السجن للانفراد بنفسه للقراءة في مكتبته بمعزل عن زوجته وأطفاله .. أما إليوت فيرى أن "الجحيم عندما تكون وحيداً" وهو ما يواجهه نهاد في السجن مؤكداً إحساسه بالاختناق وعدم قدرته على الثقة بالآخرين :
"فالوحدة تلف أذرعها حولي ، تخنق ساعاتي" ، ونجد الرمزية أيضاً في ثقافة الكاتب التي وظفها في الوصف ، مثل : "ست عيون ميدوزية تحدق بي بغضب" ، "أثرية شكسبيرية" ، "سيزيف" ، "الأشجار تموت واقفة" ، وحتى عنوان الرواية نفسها حمل معنيين أحدهما مباشر والثاني رمزي مبطن .. "ذكريات معتقة باليوريا" توضح معالم البعد المكاني المفروض والذي يشير إلى رائحة البول التي تسيطر على غرفة الاعتقال ، وقد أشار لها بشكل ساخر " ابتسمت .. ابتسمت .. ابتسمت حد البكاء ، وأنا أستذكر أجمل أيامي في مكان تبولي ، يا لها من ذكريات معتقة باليوريا" ، وهذه الدلالة تشير لمعنىً أعمق وهو توقف الإحساس بالوقت في السجن ، ثقل الظلم والقهر وظروف الاضطهاد الإنساني الذي تحارب باسمه الدول مالكة القوة صاحبة لغة السلاح ..
اجتهد الحديثي في اختيار العناوين الفرعية لفصول الرواية بألفاظ مكثفة ، كذلك سلط الضوء في سياق الوصف على بعض الموروث العراقي من خلال ألفاظ تستخدم في الحياة اليومية ، معرفاً القارئ خارج وطنه باللغة والأطعمة والعادات ، مثل "صينية الدولمة" ، "الدربونة" ، "عصا البلبل حاح" ...
يؤسس علي الحديثي للبحث الروحي فيما وراء الماديات والهدف من حياة الإنسان في هذا العمل الأدبي مؤكداً أن "المسافة بين البابين برزخٌ يفصل بين عالمين من المشاعر" ..
اعتمد تقنيات متعددة في سرده ، كالتشخيص ومن أمثلته في هذا العمل "النوم ذليل" ،
وقد يختلف المحللون في نسب الرواية لذات الراوي وهو الكاتب نفسه أو أنه عنصر التخييل الذي دمجه والواقع الملموس في تجارب من عايشوا الأسر ، وبذلك قد يرى البعض أنه اعتمد تقنية الاسترجاع الفني في الحكي والكتابة بدليل أنه ترك للقارئ مفتاحاً لفظياً في العنوان "ذكريات معتقة باليوريا" ويرى آخرون أنه حاكاه أدبياً في صناعة الشكل اللغوي والنوع الأدبي ليعبر عن قضية عامة وهي تجربة الأسر وآثارها النفسية لحظة الخضوع للظرف وما بعدها ..
وقد رسم الحديثي البعدين الزماني والمكاني مخصصاً بسجن أبو غريب منذ لحظة الاعتقال وحتى لحظة الإفراج يوم
26-5-2005 مما يشير لربط الموضوع بأحداث 2003 في العراق إبان الاحتلال الأمريكي للعراق ..
علي عبدالرحمن الحديثي قاص وروائي عراقي ، حاصل على شهادة بكالوريوس لغة عربية ويعمل مدرساً ، عضو اتحاد الأدباء العراقيين وعضو نقابة الصحفيين ، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "المعبث" ، رواية "ذكريات معتقة باليوريا" الأخيرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ، وله رواية تحت الطبع ..