يوشك اليمن ان ينضم إلى قائمة الدول العربية الفاشلة. تحديات استمراريته دولةً متماسكةً تتفاقم، بعد أن صار التقسيم خطراً يزيد من حتمية تدهوره ساحات نفوذ قبلية ومذهبية وعقائدية وإقليمية ترفض سيادة الدولة، وتفككها هويةً ومؤسسات.
الهاوية التي يتدحرج نحوها اليمن تُبينُ جلياً أن مكامن مشاكله تتجاوز السياسة. فثورته انتهت إلى تفاهمات غيّرت نظامه، ووضعته على خريطة طريق نحو مستقبل يأخذ بالاعتبار المصالح السياسية لأطراف الخلاف. لكن الخطوَ نحو هذا المستقبل بدأ متعثرا متخبطا، محكومة وجهته الفوضوية بالتركيبة المشوهة لمفهوم الدولة وهويتها وعلاقة أهلها بها وببعضهم بعضا.
راهِن اليمن هو الحصاد الحتمي لغرس الانقسام والتقوقع الهوياتي البدائي. فذاك الغرس صاغ مسيرة تكون الدولة الوطنية وفق مفاهيم فرضت حدودا جغرافية، لكن لم تبنِ جوامعَ قيمية ثقافية بين سكانها. وجاءت النتيجة الفشل في إعادة تكوين انتماءاتهم شعبا مندمجا في "يمنيته"، لا جماعات تُصاغ علاقاتها وفق تناقضاتها بدلا من جوامعها.
بسبب ذاك كان تَمزّق اليمن واقعا قبل سنوات الثورة والفوضى التي تبعتها. كل ما فعلته الفوضى هي أخذه من حال الصراع الراكد إلى الانفجار.
وليست هذه القتامة سمة يمنية حصرية في المنطقة. فكوارث السنوات القليلة الماضية عرّت أكذوبة الدولة الوطن في غير بلد عربي. أزمة الهوية الوطنية حقيقة عربية. الفارق فقط في عمقها وفي عوامل سياسية اقتصادية وإرثية تحدد كيفية تعبيرها عن نفسها تفجراً أو تصدعاً.
فالثورة الليبية ضد بطش القذافي دفعت الدولة إلى قيعان تشرذم مجتمعي كشف أن الهوية الليبية غير موجودة إلا في جوازات السفر. وكذلك أبرزت الأزمات ضعف الهوية الوطنية في سورية والعراق أمام الهويات العرقية والمذهبية والطائفية الفرعية. لم يكن الوضع في لبنان أفضل. وسيكون في دول عربية أخرى أسوأ.
إلاّ إذا ووجه هذا الواقع بالاعتراف به أزمةً بنيويةً وعولج جدياً ومنهجياً.
ولا تكون المعالجة بالاندفاع في الدمقرطة عبر تعابيرها الأدواتية، من دون العمل طويلا قبلذاك على تكريس القيم الديمقراطية ثقافةً جمعية. فالمجتمعات المنقسمة تجمعات متناقضة تُحيل الأدوات الديمقراطية سبيلَ سطوة، وتستبدل سلطوية القوة بسلطوية صناديق الاقتراع. ما جرى في العراق مثال ساطع على ذلك.
تكون المعالجة بتشييد البنية التحتية للديمقراطية، عبر إصلاح تعليمي قانوني يجذّر الهوية الوطنية منظومةً قيميةً متكاملة، وفق عملية متدرجة منضبطة بثوابت حوكمة صارمة، ومنبثقة من اقتناع راسخ بحتمية استكمال هذه البنية ضمانةً وحيدةً ضد الانفجار.
بعكس ذلك ستتوالى الكوارث في بلاد العرب.
فالاندفاع من منطلقات استرضائية أو طموحات مثالية نحو شكل ديمقراطي لا يسنده محتوى قيمي سيخلق ليبيا ويمناً جديدين بتسارع مدمر. والتعايش مع علّات الراهن والتباطؤ في مواجهتها سيؤدي تدريجيا إلى يمن وليبيا جديدين. ضرر التسرع يساويه ضرر المراوحة. الفارق وقتي لا غير.
معركة التغيير حتمية. حسمها لصالح بناء مستقبل أفضل يتطلب خوضها بصبرٍ واقتناع وفهم أنها تبدأ وتنتهي بإصلاح تعليمي يعيد بناء المنظومة القيمية، لتكون الهوية الوطنية ثقافة جمعية جامعة، لا حدودا جغرافية ومسميات واهنة.
خسرت المنطقة الماضي جرّاءَ فشلها السياسي الاقتصادي الثقافي الاجتماعي. ستخسر المستقبل إن لم تستجب لمتطلبات التغيير، لكن بوعي يدرك ضرورته، وواقعيةٍ تستوعب أن التدرج المثابر شرطٌ لنجاحه.