مع انطلاق خطط التنمية الأردنية الثلاثية والخمسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أرسل الأردن بالمئات من شبابه وشاباته الواعدين إلى جامعات العالم الرائدة في مجالات العلوم التطبيقية والبحتة، لينقلوا الخبرات والتجارب الكفيلة بدفع عجلة التنمية وتسريع دورانها، يوم كان الأمل أقوى، والحلم يداعب خيال الساسة والآباء والأبناء على حد سواء.
يومها، كانت الفرص متساوية لأبناء البدو والفلاحين والفقراء والأغنياء؛ فهياكل مؤسساتنا بحاجة لمن يملأ الشواغر، والفرص أوسع، والنفوس أرحب، و"الثانوية العامة" لم يتم العبث بمعاييرها بعد. في تلك الأعوام، كان العديد من جامعات الولايات المتحدة يفتح أبوابه لمبعوثي الحكومة. وتكدس الشباب الأردني في عدد من الجامعات التي توفر بيئتها الاجتماعية والثقافية وحيوتها فرصا إضافية للوافدين، لينهلوا من الثقافة والحياة، وبما يمكنهم من أن يكونوا عناصر للتجديد والتغيير في بلدانهم.
في نهايات آب (أغسطس) 1980، بدأت رحلتي، مثل الكثيرين من شباب بلدنا، إلى جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس لدراسة الدكتوراة في علم الاجتماع الجنائي، وكان الكثير من الأردنيين يدرسون الهندسة والإدارة والاقتصاد والتربية، ليعودوا ويعمل العديد منهم في حكوماتنا رؤساء حكومات ووزراء ونواب ومدراء واقتصاديين ومستشارين، لكن على طريقتنا وليس طريقتهم.
في تلك الجامعة الأعرق التي كانت تحتفل بمرور قرنين من الزمان على تأسيسها في ذلك العام، كان رئيسها البروفيسور زمبرغ؛ أستاذ الجغرافيا الشهير، يشارك الطلبة وأسرة الجامعة احتفالاتهم بجلوسه فوق سلة تعلو بركة ماء، يسدد عليها الطلبة كراتهم، وكلما أصاب "الرماة" السلة سقط الرئيس الأنيق في بركة الماء. أظن أن أول صدمة حضارية واجهتها تمثلت في المقارنة بين نظرات وصمت رئيس الجامعة الأردنية إبان دراستنا الأولى والبروفسور زمبرغ رئيس جامعة جنوب كاليفورنيا.
في الجامعة التي تحمل شعار "تروي" أو "تروجان"، وعلقت بأذهان الناس في طروادة وفرسانها، فضاء غير عادي؛ فهي على مقربة من هوليوود عاصمة صناعة الأفلام؛ وإلى الغرب منها أهم أحياء الأغنياء والنجوم والمشاهير. ومعظم تقليعات العالم المرتبطة بالحرية والتنوع والتعددية تنطلق من المدينة التي تطل على المحيط الهادئ، ويقيم على أرضها أناس جاؤوا من أكثر من 160 بلدا في العالم. أهم شخصياتها نفوذا كان توم برادلي؛ العمدة الأسود الذي ترشح لاحقا حاكما للولاية، وكاد أن يكون كذلك بحسب استطلاعات الرأي، لولا تغير سلوك الناخبين عند التصويت، فيما عرف بـ"برادلي سيندروم" لاحقا، كناية عن أن "الناخبين يقولون شيئا ويعملون شيئا آخر".
في تلك الأيام، كانت أزمة الرهائن الأميركيين في إيران على أشدها. وكان جون لينون ما يزال حيا. كما أن إطلالة والتر كرونكايت على أخبار السابعة مساء كانت طقسا لا يملك أحد منا تفويته.
الانتخابات الرئاسية الأميركية ستتم في موعدها الدستوري يوم الثلاثاء اللاحق لأول يوم اثنين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) كل أربعة أعوام. والمنافسة بين رونالد ريغان الجمهوري وجيمي كارتر الديمقراطي الذي حمله الناخبون مسؤولية الرهائن في إيران. ونجح أمهر الساسة الأميركيين الذي عرف كيف يؤدي أمام الكاميرا ويحرج منافسه عندما طرح أشهر الأسئلة على منافسه بقوله: "هل الأميركيون اليوم أفضل مما كانوا قبل أربع سنوات؟"، تاركا الإجابة التي قاد الناخبين لها.
أظن أن التنوع كان مظهرا لا يمكن أن تخطئه العيون؛ فعلى جوانب الشوارع المؤدية للحرم الجامعي كانت بيوت الطلبة والطالبات التي تأخذ مسميات إغريقية؛ "غاما" و"سيغما" و"ألفا... وفي مبنى اتحاد الطلبة ينظم الأردنيون من حركة الإخوان المسلمين، ومعهم طلبة مصريون وسودانيون وعرب آخرون ومسلمون، صلاة الجمعة بجوار المكتب الذي كان مخصصا للمثليين الذين كان لهم تأثير كبير على قرارات الجامعة.
بالنسبة لي، كان الإعلام الأميركي وشبكاته الرئيسة موضع اهتمام؛ فقد كنت أتابع تيد كابول في برنامج الحادية عشرة والنصف في برنامج "ذي نايت لاين"، ومايك ولاس ودان راذر على الـ"سي. بي. أس" في "ستون دقيقة"، إضافة إلى "هذا الأسبوع" مع ديفيد برنكلي..لدرجة التوحد والإحساس بأنني أعرفهم جيدا.
عشرات الأردنيين اصطحبوا زوجاتهم وأطفالهم، فانشغلوا بهم وبدراستهم؛ فحال ذلك دون اختلاطهم بالمجتمع، وتفهم الثقافة والتعامل معها إلا في الحدود التي تيسر انتقالهم وأداء مهامهم الدراسية التي سعدوا بأن أنهوا متطلباتها، ليعودوا إلى وظائفهم، وربما إلى نمط الحياة السائد قبل الرحلة المكلفة للتواصل الحضاري. ولا جدوى تذكر من أن تذهب إلى ثقافة أخرى لتتعلم منها وأنت معاد لها أو مسكون بهاجس إقامة الحجة عليها، ومتطلعا للعودة إلى بلدك لتعيد إنتاج النظم التي يتمنى الناس أن تتطور لتستوعب أحلامهم.
اليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود، وتوقف الخطط الثلاثية والخمسية والرغبة في إحداث التغيير، خصوصا في وجه احتدام وتنامي الحركات الأصولية، أرى أننا في وضع لا نحسد عليه. فمؤسساتنا فقدت الكثير مما كانت عليه حتى قبل التخطيط وخططه، وأصبح همنا هو كيف نقنع الأصوليين بتبنى أيديولوجيا أقل تطرفا، أكثر من سعينا إلى تحقيق قفزات عملاقة نحو المستقبل الذي حلمنا به قبل أن ندخل في سباق مع الجماعات المتطرفة في كسب قلوب وعقول الناس الذين أحبطوا تحت ضغوط الفقر والبطالة واللامساواة وانعدام الفرص، رغم كل الوعود بحياة أفضل وأكثر كرامة.