وقف الجيش اليمني متفرجا على العاصمة صنعاء وهي تسقط في يد جماعة الحوثيين. مليشيات من بضعة آلاف من المقاتلين اجتاحت المدن اليمنية الواحدة تلو الأخرى، واحتلت العاصمة من دون مقاومة. ليس هذا فحسب؛ الجنود وقادتهم أخلوا وحداتهم العسكرية بهدوء، وتركوا الأسلحة للحوثيين.
الرئيس اليمني لا يجد تفسيرا لما حدث، إلا القول إنها مؤامرة تورطت فيها أطراف داخلية وخارجية. لكن السؤال المحير يظل بلا إجابة: كيف لجيش بحاله أن يخون الأمانة؛ أمانة الدفاع عن الوطن والدولة، ويسلم هكذا لمؤامرة الداخل أو الخارج؟!
في العراق؛ سيدة الجيوش العربية، حدث ذلك مرتين. المرة الأولى عندما دخلت قوات التحالف الغازية بغداد من دون مقاومة تُذكر. فبينما كان وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف يتحدث للصحفيين عن نصر مبين، كان موكب الدبابات الأميركية يعبر الجسر من خلفه.
سقطت بغداد من دون مقاومة، وبالحجة نفسها؛ مؤامرة وخيانة، روى فصولهما من بعد ضباط هربوا من ساحة المعركة. لكن السؤال ظل بلا إجابة: كيف تخون الجيوش؟
قبل أشهر، تكررت ما قيل إنها مؤامرة؛ مئات من مقاتلي تنظيم "داعش" طوقوا مدينة الموصل، وقبل أن يدخلوها فر جنود الجيش العراقي، حفاة عراة، تاركين خلفهم أكواما من الآليات العسكرية والعتاد المتطور. يؤكد شهود عيان أن ما حصل كان استلاما وتسليما بين "داعش" وقادة الوحدات العسكرية. بمعنى آخر، عملية مدبرة من قبل، أقل ما يمكن أن توصف بأنها خيانة.
الجيوش المنذورة لحماية الأوطان تخون الأمانة. لم يسبق أن سجل تاريخ الأمم مواقف كهذه؛ تسلم فيها الجيوش العواصم والمدن. في التاريخ قصص عظيمة لجنود سدوا بأجسادهم بوابات الأوطان في وجه الأعداء، ولم يتوقفوا عن القتال حتى آخر جندي. في تجربة بعض الجيوش العربية، العسكر يفرون قبل المدنيين، والجنود يخدمون الأعداء أكثر من الجواسيس.
لا مؤامرة ولا ما يحزنون؛ إنها الدول الفاشلة، كل ما فيها وهمٌ على وهم. لا تغرّنكم الاستعراضات العسكرية، ولا صفقات السلاح المتطور؛ في أغلب الأحيان يكون الهدف من وراء تلك الصفقات "الكوميشن" لا الحرص على تسليح الجيوش وحماية الأوطان. صفقات التسليح في العراق بعد الاحتلال الأميركي كانت أنموذجا لأكبر عمليات الفساد في التاريخ. وفي اليمن، ظل الجيش لنحو ثلاثة عقود في عهدة الرئيس وأبنائه؛ مزرعة للفساد والإفساد.
أخطر ما في تلك الظاهرة أن الجيوش لا تتخلى عن الأنظمة؛ لو كان هذا فقط لهانت القصة. ففي عديد الدول العربية تعودنا على انقلاب الضباط على الحكام، ما حصل ويحصل هو أن الجيوش صارت مستعدة لخيانة الوطن والشعب. فشل الأنظمة التي استوطنت في تلك الدول جعل من جيوشها قوة غريبة عن أوطانها.
ليس صحيحا أن الهزائم هي التي تضعف الرابطة الوطنية بين الجيش والوطن، على العكس تماما، الجيوش الوطنية الحقة هي التي تؤمن بالثأر من هزيمتها. الجيش الأردني هُزم مثل باقي الجيوش العربية في حرب 67، لكنه بعد أقل من سنة ثأر لكرامته ولشعبه ونظامه في معركة الكرامة، ومنذ ذلك التاريخ ظل واقفا وشامخا؛ انتصار في معركة استمرت ليوم واحد، كان كفيلا بجعله جيشا للوطن والشعب حتى يومنا هذا.
ما يجعل الجيوش مجرد مرتزقة ومليشيات، تقدم حياتها على حياة الشعوب ومصالح الأوطان، هي الأنظمة الفاشلة. الأنظمة الفاشلة هي التي تدفع الجيوش للخيانة.