فسّر صديق صاحب خبرة طويلة في الصحافة، ما يكتبه صحفيون شباب، أحياناً، من تقارير صحفية حادة، بكونهم "مستفَزّين"، يحاولون من خلال ما يكتبون أن ينفّسوا عن غضبهم. وهذا معناه أن ما لدى الصحفيين الشباب من استفزاز طبيعي، موجود أيضاً لدى غيرهم من الشباب الذين قد يجدون بدورهم مجالات وسياقات أخرى للتنفيس عن استفزازهم.
غير أن ما نلحظه في مناسبات ومواقف عدة، ومنها ما يجري من تنافس يومي محموم وغير مفهوم بين سائقي السيارات في شوارعنا، يؤشر على أن الاستفزاز لا يتوقف عند الشباب، بل يشمل شرائح عمرية أخرى؛ بمعنى أن مقياس الاستفزاز لا يتعلق بالعمر، من حيث المبدأ.
أحسب أن ذلك الاستفزاز، الذي يُنتج ردود فعل غير موضوعية، تتجاوز مجريات الأحداث، وتذهب إلى تحليلات وافتراضات عادة ما تتعلق بالنوايا، ينتج عن سببين، ليس بينهما أي رابط أبداً، لكنهما ينتهيان إلى النتيجة ذاتها:
الأول، هو البحث عن "مكان تحت الشمس"؛ أي السعي إلى إثبات الذات من خلال نقد الآخرين. وإذا كان هذا الأمر يقود إلى تجاوز الموضوعية في إطلاق الأحكام، فإنه من دون شك يدفع صاحبه إلى تصيّد الآخرين، ومن ثم الإساءة لهم.
أما الثاني، فيتعلق بالانطلاق في اتخاذ المواقف من انطباعات مسبقة، عادة ما تكون غير صحيحة. هنا أيضاً ينتهي الأمر لتصيّد الآخرين، والإساءة إليهم. وإذا كان هذا الأمر لا ينتج في أصله عن سعي مقصود إلى تجاوز الموضوعية، فإن تجاوز الموضوعية واقع حكماً، ما دامت الأحكام تنتج عن تصورات لا عن حقائق، وعن أفكار عامة يقصّر أصحابها كثيراً في عدم تمحيصها قبل اعتناقها، وفي عدم تقييمها (دورياً!) خلال استعمالها.
وهكذا، فإن النتيجة النهائية لذلك الاستفزاز غير الحميد، هي وجود فئة تتصيد الآخرين، وتسيء تفسير أعمالهم، وتروج لأفكار غير صحيحة عن كل شيء يدور حولها. ألا يعني هذا أن "الرأي العام في خطر"، ما دام الاستفزاز يشمل شرائح عديدة وفئات مختلفة، فيما التروي محدود الانتشار؟!
لا ريب أنه في خطر. ومعالم ذلك الخطر أن "الرأي العام" يعمل "من الحبة قبة"، ويوظف كل صغيرة وكبيرة لإثبات أفكاره المسبقة، ومن ثم التصرف تجاه كل حدث بما يشبه السعي إلى تصفية الحساب مع كل تلك الأحداث الصغيرة والكبيرة السابقة.
هل يصح هنا إلقاء اللوم على فهم بعض الإعلاميين لمعنى "حرية الإعلام"، وكيفية استعمالهم لها، كما يجري عادة؟ ربما أن تلك الحرية تعني لبعض هؤلاء أنهم مخولون بالسعي إلى إثبات انطباعات المجتمع المسبقة عن كل شيء يدور حولهم، من خلال تصيّد التصرفات والتصريحات والتلميحات للجهات التي يُراد تعميق الانطباعات بشأنها. وهو ما يقود فعلياً إلى تعميق تلك الانطباعات لدى الناس. وفي هذا تفسير -مثلاً- لكيفية تزوير الحقائق فيما يتعلق بالقضايا العالمية الكبرى، وليست قضايانا العربية السياسية العادلة إلا مثال على إمكانية نجاح "التضليل" في تحريف الحقائق.
على أنه يجب النظر إلى الوجه الآخر أيضاً. فإذا كانت حرية الإعلام تُفهم عند كثيرين على أنها سعي إلى إثبات انطباعات سلبية معينة، فإن المعنى الحقيقي لـ"تقييد حرية الإعلام" يكون السعي إلى إشاعة انطباعات عامة شديدة الإيجابية، تتجاوز -هي أيضاً- على الموضوعية والحقائق. هذا يفسر لماذا يظهر أحياناً من يبيعون ضمائرهم لقاء حصولهم على مصالح شخصية مباشرة؛ فهؤلاء يتعاملون مع مواقعهم ونوافذهم على المجتمع باعتبارها "أدوات" لإنجاز "أجندات"، لا لتقديم حقائق، انطلاقاً من الفكرة ذاتها التي يحملها المستفزون، أي المتمحورة حول إهمال أولوية الحقيقة. هل ثمة فارق بين الطرفين إذن؟!