يعلم ويعي الألِبّاءُ والفُطناء من المعلمين أنّ مجلس نقابتهم قد تحدّدت ملامح هيكله العام حتى قبل بدء الانتخابات الأخيرة, فلم تطرأ عليه تغييراتٌ معتبرة، وأبَت كثيرٌ من الوجوه إلا أنْ تكرر نفسها وتفرض تواجدها مجدّداً، لأنّ بوصلة الترشيح في عُرْف الانتخابات النقابية العصريّة لا تقف – عادةً - إلا عند المُنظّمين حزبياً؛ وبما يَلْقَونه مِن سخاء الدّعم المادّي والمعنوي بكل أشكاله, ناهيك عن كوْن الحسابات السياسية لأحزاب بعض المشاركين فيها لا بدّ – فيما بعد - أنْ تُلقي بظلالها وشيء من ظُلمها على المنهج العملي للنقابة.
وقف المعلمون – بعد تشكيل المجلس - وعيونهم ترْمقُ وعوداً جديدة من عُمر نقابتهم الوليدة، لكنّ قلوبهم تتحسّرُ على فوات الأيام التي مضت دون لَمْسهم شيئاً من طموحاتٍ مشروعةٍ صاغوها بهجائية ما يكابدونه في أعظم مهن الدّنيا؛ اللهم إلّا بطاقة العضوية التي حصل عليه المعلم – أخيراً!- فوضعها في جيبه، ومعها أملٌ ضئيل أن تنفعهم يوماً، أو تلقى من الناس تقديراً وقبولاً ولو بمقدار كلمات قليلة تشعره بشيء من الفخر بمهنته والاعتزاز برسالته، أو حتى الإحساس بالتغيير .
لعلّ تلك الحسرة هي منشأ الإحباط الذي بدا جاثماً على تفكير كثيرٍ من المعلمين قُبيل الانتخابات، ودفَع قسْماً منهم نحو قرار المقاطعة وترك الانتخاب؛ وهو ما ساهم إلى حدّ بعيد في اختلال الموازين المسئولة عن شكل النتائج الداخلة في تركيبة المجلس القادم، وربما الاستمرار بنفس السياسة والسلوك والأداء؛ وهذا لأنّ الطائفة الأكبر عدداً من الواصلين للمجلس منتسبون – واقعاً – إلى حزبٍ سياسيّ يعنيه كثيراً أمرُ الظهور والتواجد في نقابة بحجم (المعلمين)، وعليه فلم يتأخرّ مؤيدوه من المعلمين عن مَلء صناديق الانتخابات بأسماء (إخوانهم) في الحزب أو الجماعة، ولو كان كثيرٌ من تلك الأسماء وجوهاً قد حضرت في المجلس السابق الذي لم يكن على المستوى الأدنى من رضى العاملين في ميدان التربية والتعليم !
وعلى كلّ حالٍ فليس من الحكمة – في هذا المقام – بحْثُ الأسباب التي تجعل طريق الهيمنة على المجالس النقابية ممهدة أمام تنظيمٍ أو حزبٍ معيّن - كالإخوان المسلمين مثلاً – والوسائل المُعينة على تأسيس فكرٍ نقابي إصلاحي قويم بعيد عن التّعصّب والتحزّب، وأرى من الأهميّة وجوب الاهتمام للآثار اللاحقة المتوقعة حول تركيبة المجلس القائم لنقابة المعلمين، ومدى قدرته على التكيّف مع تطلعات العاملين في التربية والتعليم، والنأي بنفسه عن التجاذبات السياسية الخارجيّة أو صراع الأحزاب مع الدولة .
في هذه الأيام – ومع اقتراب الدوام المدرسي للطلبة – بدأنا نلمسُ تحرّكات متسرعة داخل أروقة الفروع النقابية لمجلس المعلمين بغية تنفيذ اضراب شاملٍ عن تدريس التلاميذ، وهو ما حدث في مدارسنا من مدّة قريبة مع اختلاف الأسباب المُدّعاة أو الحجج! ورأينا حينها التأثيرات اللاحقة للإضراب ومدى الفوضى التي لحقت بالعملية التربوية و التعليمية.
لسنا هنا بصدد البحث في النتائج المتوقعة لإضرابٍ يتعلق بعشرات الآلاف من أبنائنا الذين سيتيهون – كما أُسَرِهم – في حسابات مختلطة لا ناقة لهم فيها ولا بعير ، ولا يقدرون فيها على رفضٍ أو نفير ؛ لكنّ العاقل يجد نفسه في مثل هذا الأمر أمام سؤالٍ صارخٍ : أيحّق شرْعاً وعقلاً لأولئك القائمين – أو المتحمّسين ! – للإضراب اتّخاذُ طلبة المدارس سيْفاً يسلّونه كلما دَعت حاجتهم أو مطالبهم ، أو دخلت النقابة في اللعبة السياسية؟
مَن يقول بجواز هذا فلنا سؤاله: هبْ أنّ الطرف الآخر استقرّ على قراره أو رأيه ، أو لم تكن تنازلاته مرضية للمعلمين، واستمر على هذا شهوراً.. أتقولُ – أو ترضى – لأولادنا الانقطاعَ عن الدراسة عدّةَ الشهور؟ وما حدُّ هذا بظنّك؟
إنّ الله – تعالى – قد جعل لصاحب الحقّ سُبُلاً إليه، وما مِنها سبيلٌ واحد فيه ظلمٌ للغير أو فواتٌ لمصالح شرعيّة هامة للأمة، أو حصول المفاسد العظيمة والأضرار العامّة؛ ولا أظنّ منصفاً يخفى عليه ما يجرّه أيُّ إضرابٍ للعامل عن عمله من المفاسد والأضرار وسيئ الآثار، فكيف إذا كان للمعلمين الذين هم الصفوة مِن المجتمع والأخيار! ألا يكون العجبُ أكبر والأثرُ أخطر؟
ليعلم أولئك المخطّطون للإضراب – في مجلس نقابة المعلمين – أنّ المشكلات والآفات التي تنخرُ مدارسنا تقتضي منّا عظيمَ الجهد والمثابرة، وتسخير طاقاتنا وقوّاتنا في طريق الارتقاء بأبنائنا نحو مكارم القيم والأخلاق والعلم النافع؛ ولئن كان للمعلمين ثمّة حقوق أو ما شابه فليطلبوه برضى الله – تعالى – وإنْ تأخرّ تحصيلها، ولا يكونوا كمن ينقضُ غزْلَه مِن بعد قوّة! فالمعلمون لتعليم الطلبة لا لحرمانهم منه أيّاً كانت الدّواعي أو الأسباب، وليذكروا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: 'لابد للنّاس من عريف، والعريف في النار'، والعريف هو الذي يقومُ بأمر وحاجات القوم أو الجماعة المعيّنة من الناس، وقوله: 'في النار' بمعنى أنّ العرفاء على خطر عظيم، لكوْن الأمانة لها كثيرٌ من التَّبعات في عنق حاملها .
وأمّا من كان منهم ذا دوافعٍ سياسيّة أو مآرب حزبيّة؛ فهؤلاء لا نملك لهم إلا أنْ نقول: اتقوا الله في وطنكم الأردن، واتقوا الله في المعلمين والتلاميذ فأنتم بمثل هذا الذي تخطّطون له إنما تقيمون للفتنة دَوْلةً، وتهيئون للباطل صَوْلة، واحذروا فأنّ آفة السياسة والتحزّب لا تأتي إلا بالصراعات والتفرّق، وهي أساس كلّ بلاء وضعف يلحقُ بنقابتكم الغرّاء.
أخيراً: إنّ العدل والإنصاف يقتضيان حُسْنَ الظنّ بكلّ مَن وصل مجلس النقابة، وبغضّ النظر عن مرجعياتهم وانتماءاتهم الفكريّة والمنهجية، أو الالتفات إلى كوْن كثير منهم قد انتُخبوا لاعتباراتٍ فئويةٍ أو شخصيّة أو حزبيّة، ونحسبُ أنهم سيصدقون بشعاراتهم التي قطعوها على أنفسهم قبل الانتخابات، ولا زال الأملُ معقوداً بناصية كثيرٍ ممَن تقلّدوا دفّة القيادة في المجلس الجديد لنقابة المعلمين أنْ يبرزوا لنا ملامحَ عملٍ نقابي متقن يُجلي لنا الطريق نحو آفاقٍ تربويّة وتعليميّة منيرة، لا يشوبها تأثّرٌ حزبي ولا توترٌ عصبي.. نحن نريد لنقابة المعلمين أن تمضي برُشْد رسالة أبنائها العظيمة، مخلصة لدينها ووطنها – بالنّية والبُنية - خُلوص النفائس من المعادن، واللهُ – وحده – الموفق لكلّ خيرٍ وسداد وصلاحٍ ورشاد.