لا توجد جريمة تفتّ في عضد المجتمع كالفساد. وكل النظريات والأبحاث المعاصرة التي سعت إلى الإحاطة بهذه الجريمة، ذهبت الى تحميل الفساد مسؤولية الاضطرابات الاجتماعية والسخط الشعبي، علاوة على أنه يشكل علامة الفشل في أي دولة استوطن فيها بشكله الحاد.
ومهما تلونت أشكال الفساد، أو صغر حجمه أو كبر، فإنه يشكل نواة للسيطرة على الثروة، ويكون سببا مركبا في سوء توزيع الدخل. كما أنه يشتت على نحو مباشر أي مظاهر للنمو والتحسن الاقتصادي، ما يجعل أي الدولة تدور في حلقة مفرغة من الاستقطاب لجهة تفتيت الطبقات الاجتماعية، وصولا إلى تهديد الأمن في الصميم.
وتكشف الدراسة الأخيرة لمركز "كارنيغي الشرق الأوسط" أن الآثار الأمنية للفساد الحاد تنسف شبكة العلاقات داخل أي دولة، وتجعلها في مهب الريح. إذ يتم اختراق الدولة، نتيجة الفساد، من خلال الجريمة المنظمة العابرة للحدود، بما يعني زيادة احتمالية وقوع تحديات أمنية. ومن هنا تنبع أهمية هذه الدراسة التي تسلط الضوء على تداعيات الفساد وأثره في إضعاف الأمن ضمن مستويات متعددة. بيد أن الجزء الأكثر أهمية يتعلق باتهام الغرب بالإصرار على الإبقاء على علاقات مفتوحة مع حكومات فاسدة، لاسيما في العالم العربي. بعدها، يصبح السؤال عن فوضى انتشار السلاح، وصعود التطرف، وانهيار نظريات الحدود الآمنة، ضربا من الترف؛ فكل المظاهر المقلقة السابقة تأتي ضمن عباءة تحقيق المكاسب الاقتصادية والمصالح الاستراتيجية الغربية، على حساب الدول (الفاشلة) وأمنها ومجتمعاتها.
لم تكتف دراسة "كارنيغي" بتشخيص العلة، بل مضت إلى توصيات تستهدف تغيير نمطية الممارسات الدبلوماسية والمساعدات العسكرية وجهود التنمية، والمعونات المقدمة لمؤسسات المجتمع المدني، وصولا إلى الاستثمار وحركة انتقال الأموال، بغية تفادي تمكين الفساد الشامل.
وفي الحالة الأردنية، وقف الفساد وسوء توزيع الثروة وانعدام المساواة وضعف العدالة، خلف الكثير من الاحتجاجات التي تكاثرت على السطح خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فقد تجاوز عدد الاحتجاجات الشهري في العام 2013 حاجز 80 احتجاجا. وأثرت تلك الاحتجاجات في تغيير الحالة الأمنية أو التكيف مع هذا الكم من الاحتجاجات. ورغم أن منسوب الاحتجاج انخفض بشكل متدرج في النصف الأول من العام الحالي، إلا أن أسئلة المحتجين تظهر من وقت لآخر.
حتى النظرة للفساد ما تزال تدور في ذات المربعات الأولى؛ ويكفينا أن نعلم أن الشكاوى التي وردت إلى هيئة مكافحة الفساد خلال الاشهر الستة الأولى من العام الحالي بلغت 639 شكوى؛ وأن مجموع القضايا التي أحيلت إلى الادعاء العام بلغ 30 قضية.
صحيح أن تلك الشكاوى تراوحت بين الكيدي وغير الموثق، لكنها كشفت حجم الاحتقان الشعبي والمهني من استمرار ذات السلوك الإجرامي، حتى لو كان بأحجام صغيرة!
الفساد ينسف أي حديث عن الأمن. وكلما تفشى الفساد، كلما انهارت منظومة الأمن؛ هذا ما يقوله الدارسون، ومثلهم الواقع العملي في كثير من البلدان حولنا.