من أجل أن نفهم ما يجري في هذه المنطقة المتوترة من العالم ، لا بد من ايجاد منهجية مناسبة للتفكير الاستراتيجي ، وقد أجد المنهج الاستقرائي أو الاستنتاجي ، الذي يقوم على تتبع الجزئيات للتوصل منها إلى حكم كلي مناسب لقراءة ما نشهده من تطورات وتغيرات ، تبدو في ظاهرها صراعات بين قوى دولية وإقليمية ومحلية ، مع أنها في الواقع عملية متواصلة ، منذ ما يزيد عن عشرين عاما ، سقطت خلالها دول ، ورحلت أنظمة وأيدولوجيات ، وتبدلت تحالفات وتعهدات والتزامات ومعاهدات !
والسؤال الكبير الذي يضعنا جميعا أمام تحديات الإجابة الصحيحة ، أيهما صنع أو يصنع الآخر ، وهل صحيح أن الهجوم الكاسح الذي قامت به قوى مسلحة لا يمكن الجزم بملامحها الحقيقية ، وإن وضعت « داعش « رمزا أو عنوانا لها ، كان مفاجئا أو خارجا عن سياق معين ؟
إنه سياق معروف وموصوف « تقسيم العراق « وكل بلد يمكن تقسيمه في هذه المنطقة ، بحيث تكون النتيجة هي غياب الخارطة السياسية والجغرافية التي نعرفها منذ اتفاقية سايكس – بيكو ، وما تزال قائمة من الناحية النظرية إلى يومنا هذا ، والمعترف بها في نطاق ما يعرف بالنظام العالمي للدول ، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية .
ثمة عنصر جديد هنا يمكن ملاحظته بوضوح ، وهو أن المساس بذلك النظام لا يمكن أن يأتي من إرادة الدول الصغيرة ولا التيارات المحلية بـأي حال من الأحوال ، وعلى سبيل المثال لا يستطيع سكان « القرم « الانفصال عن اوكرانيا ، لكن تستطيع روسيا إعادة ضم القرم إليها ، ولديها ما تقوله للقوى العظمى ، بهذا الشأن ، فجميعها تبسط سيطرتها على مناطق ليست لها !
قد يفسر ذلك خيبة أمل بعض دول الإقليم من الطريقة التي تتعامل بها السياسة الأمريكية مع قضايا المنطقة ، وخاصة التطورات الأخيرة ، ولكن من الأهمية بمكان أن ندرس هنا في الأردن موقفنا بناء على ما كنا نعرفه دائما ألا وهو أنه لاشيء ثابت في هذه المنطقة ، لا الحلفاء ، ولا الأعداء ، في هذا الوقت الذي تحولت فيه جميع حدودنا إلى نقاط للمراقبة الحذرة ، نحتاج إلى التفكير الاستراتيجي لكي نتمكن من إدارة الأزمة بكثير من الحكمة .