يميل كثيرون إلى تكييف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" كحالة راهنة، ابنة اللحظة التاريخية المعاشة، بما رافق "الربيع العربي" من تحولات جوهرية في العالم العربي وبنيته الهشة في الأصل.
قد تكون هذه الحقيقة هي نصف الصورة في المرآة، وهي الصورة التي نحاول، عن قصد أو عن جهل، تغييب نصفها الآخر الأكثر وضوحا، وهو غياب العدالة والحرية والمشاركة في الحكم خلال عقود طويلة.
في الفيزياء، قانون أثبت جدواه منذ أكثر من قرن، وهو قانون الفعل ورد الفعل، لـ"كل فعل رد فعل مساوٍ له بالقوة، ومعاكس له بالاتجاه"، وهي معادلة تنفع لأن تنظم العلاقة بين أنظمة الحكم العربية، والقوى الوليدة التي حاولت أن تؤسس لنفسها مكانا في صيغة النظام السياسي الاجتماعي الحديث في العالم العربي، غير أنها لم تجد سوى الإقصاء والتهميش والتخوين.
ذلك هو الانغلاق السياسي البحت، الذي يتحدد بـ"التعنت"، والذي لا يلتقي فيه طرفا المعادلة إلى وسط معلوم، ونقصد الأنظمة والقوى الأخرى.
في الحالة العربية، ظلت المعارضة السياسية، في مختلف الأزمان وعلى اختلاف أشكالها ومشاربها، في نظر أنظمة الحكم الهشة، رديفا للخيانة والتآمر، رغم أنها ابنة شرعية للزمان والمكان اللذين انوجدت فيهما. لكن الدين السياسي الذي بدأ بالظهور منذ مقتل علي بن أبي طالب، ألغى كل قوى ما عدا النظام القائم، وليساهم في هذا التأسيس فقهاء أحيانا، ومفكرون في أحيان أخرى.
"داعش" ليست ابنة الصدفة، بل هي نتاج الفردية التي تحكم عمل النظام العربي منذ انهيار دولة المدينة المنورة، لتولد صيغة أخرى، رأت في الحاكم "ظلاً لله على الأرض"، وهي بذلك لم تخرج عن التصور الأرسوطاليسي للإله وحكمة، ولا عن التصور الفرعوني للبشري الإله.
الأمثلة على الإقصاء والتهميش والإلغاء كثيرة، بدءاً من انفكاك التحالف بين النظام العربي الذي كان داعماً للقاعدة إبان حربها الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانسان، مروراً بالتجربة المريرة لجبهة الإنقاذ في الجزائر، إلى مصر نهاية ثمانينيات القرن الماضي مع التكفير والهجرة، ثم مهزلة الحرب على الارهاب، وصولاً إلى تحول الحكم إلى مطارد بين عشية وضحاها في مصر الجديدة التي انتخبت الإخوان المسلمين.
لا أريد أن يتم فهم كلامي على أنه دفاع عن الإخوان المسلمين، وبالتأكيد فإنني، ومن منطلق مدنيتي، أرفض حكم "داعش" الجاهلي الدموي، والذي يحاولون إلباسه ديناً لا نعرفه، ولكنني أتكلم عن سياق تاريخي، ارتأى فيه النظام العربي الرسمي، وفي كل الأزمان، أنه القائم بأعمال الله على الأرض، وألغى كل ما سواه.
وبالعودة إلى معادلة الفيزياء التي تحدد الأفعال بعكسها، سنجد أن العنف الذي فرضه النظام، أوجد عنفاً مضاداً تماماً مساوياً له في القوة والبطش، ولكن بينما كان عنف الأنظمة مستورا أو "مبررا" أو "مباركا"، كان عنف "داعش" والتنظيمات التي تشبهها منشورا عبر جميع وسائل الاتصال.
"داعش" ليست نبتا في الهواء، ولكن الفكر الإقصائي غالبا ما ينتقل من الجلاد إلى الضحية، ليحترق المجتمع بأكمله في أتونه.