خالد أبو الخير
ولد في فلسطين، وترعرع في لبنان، وعاش في الأردن، يطوي بشسوع نفسه الخيالات والآمال ويحيلها قناديلا..
لطالما عنّ له تذكار يافا، مسقط رأسه عام 1938: رائحة البرتقال، لازورد البحر، وعذب شوق المرافئ والبيارات المستحيلة، والنوارس..
وأينما أدار وجهه، بعد ستين ونيف..أينما أدرنا وجوهنا، ثمة يافا وبحرها وأشرعة عائدين تلوح في الآفاق كلها.
فتح عينيه على المخاض الأخير للنكبة، حينما كانت الصور تشحب، وهو ما فتئ يلونها بأقلام التلوين وما وعته ذاكرته الصغيرة من أدب مبكر وتلمس جمال، والغربان تنذر بآتٍ ما زلنا نعاني وقعه وآثاره.
ومثل شعب سحقته آلة القتل والموت الهمجية، ودع يافا والركب مرتحل، ولجأ تحت أزيز الرصاص وقصف المدافع إلى كتف لبنان، ليريح في أفيائه العالية رأسه الصغير من عناء هجر الديار والأحباب.
هناك فتح عينيه على اللجوء، على مرارة اللجوء وفقد الأوطان.
حل الفتى طلال أبو غزالة وأسرته في قرية تسمى الغازية ، لم تلبث أن تحولت إلى معقل للمقاومة ضد الصهاينة، وما زال بالبال نعوش الشهداء خضراء ويانعة كما ينبغي، وقصف الطائرات للنعوش والمشيعين، فعلا صوت الدم والنداء الذي لا يفنى بحرية فلسطين.
درس في أخت يافا، صيدا التي تغسل غدائرها في البحر، الابتدائية والثانوية، وتعيّن عليه أن يقطع المسافة بين قرية الغازية والمدينة الساحلية يوميا لمدة ساعتين، لطالما أمعن التفكير خلالها في الحال التي آلمت به، وأعادته في أحلام ما تزال أحلاماً، إلى نافذة يافاوية ورفاق صغار وقوارير ورد وشجرة برتقال ما فتئ يمني النفس بأنها ما تزال هناك.
ارتأى أن يمضي في طريق العلم، ويا له من درب وعر، خصوصا في مثل تلك الظروف، فلم يكن أمام الشاب الذي تخرج من الثانوية سبيل إلى إكمال دراسته الجامعية وهو اللاجئ الفلسطيني، إلاّ المال، وكيف يحصل على المال؟ وهو الذي تخلو جعبه حتى من ليرة واحدة يدفعها لجامعة حلم طويلا بارتيادها.
هداه فكره أخيرا، وليد المعاناة، إلى أنّ هيئة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" لديها منحة دراسية واحدة فقط، مخصصة للطالب المتفوق الأول لدخول الجامعة، وهذه المنحة تغطي كافة تكاليف الدراسة الجامعية.
كان التحدي كبيرا بالنسبة له، "تحد أن يجبرك عدوك أن تكون متفوقاً دوما"، وفق ما يقول، وكثيرون يجبنون أمام تحديات مشابهة أو يعزفون، لكنه استحضر ما في قلبه من عنفوان، وما في روحه من صبو إلى وثوب، ودرس واجتهد طويلا إلى أن كان له ما أراد.
تابع أبو غزالة تعليمه الجامعي في الجامعة الأمريكية ببيروت بعيد حصوله على منحة دراسية كاملة، ولم يكتف بذلك وهو الطالب الفقير، فقد عمل مترجما ومعلماً أثناء الدراسة، أمّا أول وظائفه بعد التخرج فكانت في شركة تدقيق.
قليلون يعرفون أنّ للأدب مكانة في نفسه، والحق أنّه كتب مبكرا قصصاً وخواطر، فاز عن إحداها بجائزة أدبية مصرية مقدارها 500 جنيه، لكن الجائزة لم تدفع به تجاه الأدب، رغم أنّ روحه شرشت واغتسلت بينابيعه الدافقة، بل سار يحثّ الخطى إلى عالم الأعمال.
من يرى الطالب أبو غزالة يقطع الطريق في ساحة البراجنة ذات نهار صيفي، متأنقاً ما استطاع، مستغرق التفكير..حيياً، لا بد سيستحضر "صورة الفنان شابا" لجيمس وجويس..ويتجاوزها.
عام 1969 قرر أبو غزالة لدى سماعه خطاباً حول الملكية الفكرية في مؤتمر تايم-وورنر في سان فرانسيسكو العمل في مجال حقوق الملكية الفكرية بالإضافة إلى المحاسبة.
وفي عام 1972 أنشئت شركتان، وهما شركة طلال أبو غزالة "تاجكو" وأبو غزالة للملكية الفكرية "أجيب"، حيث اختصت الأولى في مجال المحاسبة بينما اختصت الثانية في مجال الملكية الفكرية. ومنذ ذلك الحين، أسس الأستاذ طلال أبو غزالة ما مجموعه 14 شركة للخدمات المهنية المتخصصة في مجالات متنوعة، مثل الإدارة والاستشارات والخدمات القانونية وتقنية المعلومات وغيرها الكثير.
نجاحاته استمرت، ملؤها العلم والصبر والمعاناة، فقد نجح في إنشاء شراكات وثيقة مع منظمات عالمية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية. في 4 نيسان 2007، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الأستاذ طلال أبو غزالة كنائب رئيس الاتفاق العالمي خـلال اجتماعه الثاني الذي عقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
و في حزيران 2009 عينت منظمة الأمم المتحدة أبو غزالة رئيساً للائتلاف العالمي لتقنية المعلومات والاتصالات والتنمية التابع للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية خلفاً لرئيس شركة "انتل" كريج باريت.
ويوم 28 تشرين الثاني 2010، صدرت الإرادة الملكية السامية بتاريخ 25 تشرين الثاني 2010 بتعيينه عضوا في مجلس الأعيان.
وفي تشرين الأول من عام 2011 قدم العين أبو غزالة استقالته رسميا من مجلس الأعيان لرئيس المجلس طاهر المصري. وأوضح أنّ الاستقالة جاءت تنفيذا واحتراما للتعديلات الدستورية، التي تشترط في عضو مجلس الأمة أن لا يحمل جنسية دولة أخرى إضافة إلى الجنسية الأردنية.
لا يضيف أي شيء جديداً إلى حبه الثابت وإخلاصه للأردن الذي يعشق.
..ما بين الرحلة من يافا إلى قرية الغازية..والرحلات التي تلت، تبقى رحلة واحدة يمني النفس بأن يشدّ الرحال إليها.
فبحر يافا..ليس كباقي البحار، بحر يافا..يختصر كل البحار.