أخبار البلد
تقدر منظمات دولية ومحلية عراقية عدد المواطنين
الذين نزحوا داخل البلاد خلال العام الماضي ومطلع هذا العام، بنحو ثلاثة ملايين مواطن
غالبيتهم من سكان مدن شمالي وغربي ووسط العراق، غالبيتهم من العرب السنة يليهم المسيحيون
ثم الأكراد.
وفشلت حكومة حيدر العبادي والمنظمات الدولية
في تقديم المساعدة اللازمة لهم بشكل أدى إلى تفاقم أوضاعهم الصحية والمعيشية وانتشار
الأمراض والأوبئة في مناطق الصراع ومخيمات النازحين.
وتقول هناء محمد الطائي مسؤولة منظمة
"حياة" التابعة لشبكة الـ"إن جي أو" العراقية لمنظمات المجمتع
المدني المرتبطة بمجلس الوزراء: إن "العدد الحالي للنازحين في العراق المقر رسمياً
لدى الحكومة هو مليونان و250 ألف شخص". لكن الحقيقة أن العدد قارب الثلاثة ملايين
نازح في عموم مدن العراق، وهي أكبر موجة تهجير داخلية يشهدها العراق منذ الاحتلال الأمريكي
للبلاد في مارس 2003.
وتضيف الطائي أن مناطق النزوح أشبه ما تكون
ببقعة زيت تتمدد في مناطق أخرى من البلاد، إذ شهدت الأنبار نزوح نحو 950 ألف مواطن،
ونينوى مليوناً و200 ألف شخص وصلاح الدين 700 ألف، وفي كركوك نحو 300 ألف وديالى
450 ألفاً أو أكثر بقليل، فضلاً عن مناطق حزام بغداد وشمال بابل بأعداد متفاوتة، كما
برزت لدينا مؤخراً حالات نزوح من جنوب واسط والبصرة بمعدلات أقل بكثير من تلك التي
عليها المحافظات الغربية والشمالية والوسطى من البلاد.
وتضيف الطائي أن العدد الكبير للنازحين
يتطلب عقد مؤتمر دولي لإغاثتهم على غرار مؤتمر الكويت لإغاثة الشعب السوري، مع أخذ
الاعتبار أن الحالة العراقية صعبة بسبب هجرتهم الداخلية وتناثرهم على شكل مخيمات وتجمعات
لا يمكن الوصول إليها.
ويقول مستشار وزارة الصحة العراقية الدكتور
علي فياض لـ"الخليج أونلاين": إن أمراضاً خطيرة تفتك بالمهجرين وهم يقيمون
في ستة معسكرات عبارة عن مخيمات صغيرة، والغالبية يسكنون في منازل ومدارس ومبانٍ حكومية
تفتقر لأبسط شروط الصحة والمعيشة.
ويضيف: رصدنا حالات شلل أطفال وأوبئة معدية
وأمراضاً وحالات انخفاض شديد في المناعة لدى الأطفال ووفاة النساء الحوامل.
ويبين فياض أن المساعدات الحكومية لا يمكن
أن تكفي لهم والحملات الأهلية باتت طائفية، إذ تقتصر كل طائفة على تنظيم حملة لمساعدة
أبناء طائفتها باستثناء المسيحيين الذين توجهوا إلى كردستان أو أبواب السفارات الأوربية
طلباً للجوء الإنساني.
ويقول نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون
الخدمات والمكلف بملف النازحين العراقيين صالح المطلك لـ"الخليج أونلاين":
علينا الاعتراف بأن المساعدات المقدمة لا تتناسب مع مستوى الكارثة الإنسانية في العراق
وتأخرنا، لكن الحكومة تبذل قصارى جهدها.
وأضاف المطلك: "العراق يعاني أصلاً
من مشكلة النازحين والمهجرين خارج البلاد منذ نحو 10 سنوات أعقبت الاحتلال، فلدينا
نحو 3.6 ملايين عراقي مهجرين خارج البلاد بدول الأردن ومصر ولبنان وتركيا والخليج،
والآخرون في أوربا وآسيا، وزاد وضع هذا الملف سوءاً بإضافة تلك الأعداد الكبيرة عليه".
ولا يقتصر التهجير في العراق على طائفة
دون أخرى، لكنها تبدو بشكل أوضح على العراقيين السنة الذين يشكلون ما نسبته 90 بالمئة
من مجمل المهجرين يليهم المسيحيون والأكراد، ثم التركمان والشيعة وأقليات أخرى وفقاً
لمسؤوليين عراقيين.
ويقول نائب رئيس لجنة متابعة ملف المهجرين
في الموصل، المشكلة من قبل حكومة بغداد، ناجي العطواني في حديث لـ"الخليج أونلاين":
إن "نسبة السكان السنة المهجرين بلغت نحو 90 بالمئة من إجمالي العراقيين المهجرين،
وغالبيتهم يعود سبب نزوحه إلى قصف الجيش العشوائي وتهديدات المليشيات، لكن الأخطر في
ملف النازحين هو المسيحيون، فمغادرتهم ديارهم كانت بمثابة خطوة نهائية لاقتلاعهم من
جذورهم في نينوى التي تعتبر مرتكزهم الأكبر في البلاد، ولديهم مقدسات وتاريخ لا تضاهيه
المقدسات الموجودة للديانات الأخرى بالمنطقة".
ويضيف العطواني إن تناقص عدد المسيحيين
بالعراق من 3 ملايين في عام 2003 وكانوا يشكلون نحو 15 بالمئة من سكان العراق إلى بضع
مئات آلاف وصمة عار بحق العملية السياسية وشعارات التغيير التي أطلقتها الإدارة الأمريكية
في البلاد.
وسبقت عملية تهجير المسيحيين من نينوى عملية
مماثلة في بغداد بنحو واسع، لكنها نفذت ببطء كبير أسفرت عن اختفاء واحدة من أبرز مناطق
تركزهم السكاني على نهر دجلة بمنطقة كرادة مريم العذراء، التي ضمت الى داخل أسوار المنطقة
الخضراء بما فيها من منازل ومحال تجارية وكنائس يبلغ عددها ثلاثة فضلاً عن مقبرة تاريخية
تعود للعهد العثماني في العراق.
واختفى الوجود المسيحي من محافظة الأنبار
نهاية عام 2006 من مدينة الحبانية غرب الفلوجة 20 كم، وكانت تضم واحدة من أكبر مناطق
وجود المسيحيين، وتضم كنيسة للكاثوليك شيدت في عام 1813 وأخرى للبروتستانت بناها الإنجليز
في عام 1920 خلال حقبة احتلالهم العراق، وولد من تلك المنطقة شخصيات مهمة على مستوى
العراق والمنطقة العربية من بينهم كابتن ومدرب المنتخب العراقي عمو بابا ورئيس أساقفة
بغداد الأب صباح بطرس وممثلون عراقيون مشهورون في حقبة الثمانينات.
كما شهدت مدن قلعة صالح في ذي قار ومدينة
العشار في البصرة ومدينة سلمان باك جنوب بغداد ومدينة المسيب في بابل عمليات تهجير
ممنهجة للمسيحيين العراقيين على يد جماعات إرهابية مرتبطة بالقاعدة ومن ثم تنظيم
"الدولة"، فضلاً عن مليشيات شيعية متطرفة، كل ذلك أدى إلى تناقص أعدادهم
بشكل مخيف فضلاً عن تناقص عدد الكنائس بالعراق من 421 كنيسة ودير وكاتدرائية إلى
213 غالبيتها شبه مهجورة، تحولت إحداها في عام 2009 في عهد المالكي من كنيسة الأب لويس
إلى مدرسة الإمام الصادق للعلوم الإسلامية دون معرفة ملابسات ذلك.
مقابل ذلك تحولت المئات من المساجد السنية
في جانب الرصافة ومدن جنوب ووسط العراق إلى حسينيات شيعية يقابلها تحول عدد كبير من
الحسينيات الشيعية الى أكوام من الحجارة أو مبانٍ ومدارس دينية بفعل هجمات شنتها القاعدة.
وحول ذلك يقول الكاتب والباحث السياسي العراقي
أحمد الحلي لـ"الخليج أونلاين": "ما نشهده من هجرة داخلية على نحو كبير
أمر مرتب ولا يمكن اعتباره فوضوياً، وهي عملية إعادة تشكيل المناطق العراقية على نحو
ديني وطائفي ضيق للغاية، استعداداً لعملية تقسيم البلاد وفقاً لمخططات معدة مسبقاً
لا يكون للمسيحيين فيه أي مكان".
ويلاحظ على مناطق توجه المهجرين العراقيين
أنهم يلجؤون إلى مناطق انتمائهم الديني الأكثر أمناً، إذ بات مقصد المهجرين الشيعة
من نينوى وصلاح الدين الى كربلاء والنجف، وهجرة المهجرين السنة من البصرة وواسط وذي
قار إلى الأنبار وديالى ومناطق الكرخ من بغداد.
فيما توجه المهجرون المسيحيون إلى مناطق
تركزهم الديني في كردستان بمناطق عين كاوه والمهد وجبل شمشون، بينما هاجر أكراد الموصل
وديالى وبغداد إلى الإقليم الكردي وتفرقوا هناك ومنحتهم إدارة الإقليم تسهيلات للحصول
على الاستقرار الدائم فيها.
في حين فر السنة بأرواحهم الى مناطق سنية
أيضاً تعتبر أكثر أمناً من القصف والهجمات المسلحة التي تشنها المليشيات.
بينما غادر نحو 3 آلاف تركماني إلى أنقرة
وإسطنبول بعد تسهيلات تركية لاستقبالهم لدى فرارهم من الموصل ومناطق شمال غرب كركوك.
كما أن مطالبة إدارة محافظة بابل مؤخراً
بضم مناطقها الشمالية ذات الغالبية السنية إلى بغداد وهي جرف الصخر والبحيرات والإسكندرية
وجرف الملح وغيرها والتي تخضع حالياً لسيطرة الجماعات المسلحة؛ يوضح بشكل جلي أن عمليات
التهجير الداخلية في العراق تتم بشكل سريع وغير مسبوق، بل ويكون فاضحاً لمخطط تغيير
خريطة العراق السكانية إلى مناطق سنية مقفلة تشمل شمالي وغربي البلاد، وشيعية منغلقة
تشمل جنوبي وجزءاً من وسط البلاد، بينما يبقى المسيحيون الخاسر الأكبر في تلك المعادلة.
وفي حال استمرت عملية تكوين العراق الطائفي الديني الجديد تحت خيمة العنف والعنف المقابل؛ ستكون هناك ولادات مشوهة داخل المجتمع العراقي ينهي حكاية بلد الخمسة آلاف عام، الذي عرف بتنوعه الديني والعرقي على مر تلك العصور.