سمعة "البلطجة" لا تليق بالأردن

 

بطريقة تدعو إلى الأسف كله، طلعت علينا الأنباء يوم الجمعة الماضي بأخبار تعثّر المتظاهرين في عمان بعصبة مضادة للتظاهر، أوكلت لنفسها فيما يبدو مهمة قمع مواطنيها، مما أسفر عن جرح ثمانية من الأردنيين. ولا يود أردني قطعاً أن يظهر مواطنوه على شاشات التلفزة بهذه الصورة المخجلة، خاصة في الوقت الذي يتحسس فيه الإعلام العربي والدولي كل نأمة تصدر عن المنطقة. وترافق بث الخبر الأردني مع خبر اشتباك متظاهرين مع قامعي مظاهرات مدنيين في اليمن وليبيا، وموت مواطنين على أيدي مواطنين هناك بعد أن حدث ذلك في مصر من قبل. وقد وضع ذلك الأردن، وبشكل محرج، في تلك السياقات، وبشكل أوحى بأن التناقض في الحالة الأردنية وصل حد حاجة الدولة إلى استخدام "بلطجية" لقمع التظاهرات.

 

بطبيعة الحال، جاء تصميم أحداث الجمعة المؤسفة ليجهض الصورة الحضارية التي ظهرت بها الشرطة الأردنية وهي توزع المياه والعصير على المتظاهرين، وكذلك الطريقة الحضارية التي يتظاهر بها الأردنيون. ولا أظن أحداً في الأردن، أياً كان موقعه، يقرّ عمل أولئك الذين تطوعوا للعب دور "المدافعين" عن الأردن أمام مواطنين أردنيين وضربهم بالهراوات والحراب. وقد عنى سلوكهم إظهار الأردنيين وكأنهم انقسموا على أنفسهم وشرعوا في احتراب أهلي. ولا يمكن رؤية ذلك منفصلاً عن نفس مثيري الشغب الذين خرّبوا سمعة الجامعات والمدن الأردنية، وسمعة هذا البلد ليبدو موطناً للعنف المجتمعي ومحكوما بشرعة الغاب، ومفتقراً للسمات السلوكية الحضارية وهيبة الدولة، وكل ذلك تحت ذرائع وأسباب أقل ما يقال فيها أنها ضيقة الأفق، وفاقدة لأي مرتكز أخلاقي.

 

كان عنوان كل الحراك الإيجابي في المنطقة العربية، هو ممارسة المواطنين حقهم في المطالبة بالحقوق التي تكفلها لهم كل الدساتير المحلية، والمواثيق الدولية والإنسانية. وهو أمر مشروع ما دام بعيداً عن إثارة الحساسيات العرقية أو الدينية أو الطائفية، أو الترويج لأي أطروحة عنصرية. ويتناقض اضطلاع "مواطنين" بقمع رغبة مواطنيهم في التعبير عن أنفسهم بالتظاهر السلمي في هذه الظروف بالغة الدقة، مع حرص كل الأردنيين المخلصين على حل المسائل الإشكالية في هذه المرحلة بالحوار الراقي، وتجنب أي احتكاك أو صدام عنيف. ولا يمكن اعتبار إسالة أي نقطة دم من جرح أردني على يد أردني في هذه الظروف الدقيقة، أقل من جريمة كبرى ترتكب في حق هذا البلد بكل مكوناته، ومحاولة للذهاب بحالة التعافي الحالي من الجهر بالرأي وسماع كل الأصوات إلى منطقة الأزمة.

 

التظاهر السلمي حالة صحية، لأنه يعني إضافة المكون بالغ الأهمية: صوت الناس، إلى المتغيرات التي يضعها صانع القرار على مائدته عند تقرير التوجهات والسياسات. ولأن الناس هم البلد نفسه، فإن غياب وجهات نظرهم عن هذه المتغيرات، أو تغييبها، لا يفعلان سوى تعميق الشروخ بين المسؤول ومَن يمثلهم وتجدر به خدمتهم وتحقيق رؤاهم. ولا يعني تعميق هذه الشروخ بإسكات الناس سوى ازدراء وجودهم وكرامتهم نفسهما، والإلحاح على إثارة حفيظتهم حتى تصل الأمور إلى الانفجار الحتمي الذي لا ينفع معه حوار، كما تثبت الأحداث الراهنة، ومهما بدا الوضع "مستقراً" على السطح.

 

تجاوباً مع هذه الحقائق، تحركت الحكومة الأردنية أخيراً نحو تعديل قانون الاجتماعات العامة وحرية التظاهر وتخفيف القيود المفروضة على هذه الأنشطة المجتمعية الحيوية والضرورية. لكن حدث يوم الجمعة وضع صدقية الحكومة على المحك وجرها إلى موضع الشبهة، خاصة في أجواء تُنسب فيها ظواهر البلطجة مباشرة إلى الحكومات. ومع أن من حق الجميع التعبير عن الرضى أو المعارضة، إلا أنه ليس من حق أحد قتل الآخر أو جرحه، ونقل نسخة "البلطجة" البشعة التي امتلأت بها الفضائيات إلى الأردن المتعافي.

 

لم يكن ما حدث في الأردن يوم الجمعة تظاهرة مؤيدين في مقابل معارضين، وإنما تصرف عصبوي سيئ المشورة، قام به أفراد بطريقة أقل ما توصف به أنها محاولة لتوتير البلد وتقويض تميزه والإساءة إليه. وسيكون تعقب وكشف المسؤولين عن هذا التصرف ضمانة ضرورية لسير الأمور في سياقها السلمي الحضاري، والنأي بالأردن عن صورة "البلطجة" البشعة التي لا يقبلها ولا تليق به أبداً.