د. آية عبد الله الأسمر تكتب: الأحزاب السياسية تتعرى

الأحزاب السياسية تتعرى


أستغرب وأستنكر مطالبة بعض الأحزاب السياسية وقوى المعارضة بملكية دستورية في غياب واضح وقوي لقوى حزبية سياسية ذات برامج وطنية إصلاحية عملية ومنظمة وفاعلة، وانعدام وجود قيادات تاريخية جديرة بقيادة توجهات هذه الأحزاب وتحقيق الأهداف التي تشكلت في سبيل إنجازها، فيطرح الاستنكار سؤاله بجرأة: هل الأحزاب الحالية قادرة على أن تحل محل الجزء المقتطع من سلطات النظام الحاكم؟

للإجابة على هذا السؤال يتوجب علينا التساؤل لما اضطر الشباب العربي في أكثر من دولة عربية أن يضحي بنفسه في سبيل حقوقه التي عادة ما تدعي الأحزاب أنها تدافع عنها وتطالب بها؟

لأن الأحزاب بوجهها المشوّه الحالي وبأقنعتها المزيفة الكثيرة لم تستطع تلبية مطالب الشارع العربي، تماما كالأنظمة التي تدعو إلى سقوطها وزوالها، وهذا يجعلها بديلا أسوء من الأنظمة ذاتها كونها تفتقر إلى صلابة وقوة تلك الأنظمة علاوة على اهتماماتها المنصبة على ذواتها.

الساحة العربية السياسية المعارضة اليوم عارية تماما من أحزاب وطنية مهيكلة وفاعلة وقادرة على استقطاب الشباب العربي والنخب السياسية الوطنية وطلائع المثقفين والمفكرين، وعاجزة في شكلها المترهل الراهن وبنائها العشوائي المفكك ومكوّناتها الوصولية الانتهازية عن إحداث حراك سياسي مؤثر على الصعيد السياسي الإصلاحي.

 هذا الغياب لأحزاب المعارضة اضطر محمد بوالعزيزي في تونس إلى إضرام النار في جسده ليشعل ثورة تطيح بسلطة زين العابدين بن علي، وأرغم الشباب المصري على التدفق سيولا هائجة تموج في ميدان التحرير بمصر، وكذلك الحال بالنسبة للمظاهرات والاعتصامات الحاشدة حاليا في البحرين واليمن وليبيا والجزائر، كذلك الاحتجاجات والمسيرات المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي ومكافحة الفساد في الأردن.

بؤرة الغضب العربي تكمن حاليا في المواطن العادي ولا تحركها أذرع أحزاب المعارضة، لأن هذه الأذرع الحزبية ببساطة قاصرة عن الوصول إلى هذا المواطن الفقير المسجّى بهمومه وآماله وآلامه واحتياجاته على أرصفة الوطن، وهي غير معنية بمطالبه ومشاكله بقدر ما هي منهمكة في تجميل صورتها السياسية أمام النظام الحاكم، ومشغولة بتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية "بريستيجية" لرموزها وقياداتها بدعوى المعارضة تحت شعارات وطنية وديمقراطية ودستورية وإصلاحية وبعثية واشتراكية ودينية!

من الواضح جدا أن دور الأحزاب ممجوج ويعاني من شيزوفرينا سياسية وانفصام في شخصية دور هذه الأحزاب، بل إن ما جرى ويجري حاليا على الساحة الوطنية يؤكد على فقدان مصداقية وأهلية هذه الأحزاب، فهي أحزاب ضعيفة مستكينة تزحف أصواتها الهزيلة بخجل واستحياء على رفوف مطالب عادة ما تكون شكلية ورمزية أكثر من كونها مطالب جوهرية ممثلة لإرادة شعبية وطنية، فإذا ما اشتمت رائحة معارضة شعبية قوية يمكنها الاتكاء عليها تهرول مسرعة للتسلق على أكتاف المعارضين والثوار بهدف اتخاذ مواقع قيادية على جبين الثورة في سبيل الاستحواذ على كراسي السلطة، إلا أن أحزاب المعارضة من الضعف والهشاشة بل ومن الكذب والتملق والنفاق أنها لا تصدح بصوتها إلا بعدما تتيقن من تآكل كرسي الحزب الحاكم ووشوك سقوط النظام، وإلا تابعت نعيقها بصوت منخفض وحائر ما بين انتهاز لحظة الانقضاض على مكاسب مسيرات وثورات شعبية لم تشارك هي في الدعوة لها أو التحريض عليها أو إثارتها، وبين الحفاظ على طريق آمن وهادئ في حال فشل المظاهرات والاحتجاجات لتعود عليه إلى أعشاش الصمت من جديد.

نستثني من تلك الأحزاب –ربما- حزب الإخوان المسلمين سواء في مصر أو في الأردن، حيث أثبت حزب الإخوان على الرغم من بعض الأزمات التنظيمية التي اعترضت تركيبته الداخلية منعكسة على مسيرته بين الحين والآخر، أثبت تفوقا منقطع النظير على ما عداه من الأحزاب من حيث وضوح الرؤيا وبعد النظر وثبوت الأهداف وثبات المواقف والتزامه بمبادئ واضحة ومحددة، وهذا تحديدا ما تفتقر إليه الأحزاب الأخرى التي تحاول ركوب موجة الاتجاه العام واقتناص الفرص للانقضاض على السلطة في غياب واضح لمصداقية وطنية صادقة وميثاق حزبي متين.

حزب الإخوان المسلمين يتعمد أن ينأى بنفسه عن التناحر في سبيل الوصول إلى سدة الحكم إلا أنه في الوقت عينه يصر على حقه في المشاركة السياسية ودوره في القرار السياسي، ثوابته واضحة ومبادئه ثابتة وأهدافه محددة وهيكلته متماسكة وآلية عمله مدروسة وممنهجة، بينما نلمس تخبطا ملحوظا وعشوائية واضحة في مسيرة الأحزاب الأخرى التي تتلون كالحرباء بحسب الأرضية الوقتية التي تقف عليها للأسباب العديدة التي ذكرناها، علاوة على فقدانها بوصلة وطنية أو مبدئية توجه انتماء الحزب وولاءه باتجاه الوطن أو نحو مبادئ وقيم وشعارات واضحة ومحددة، بدلا من وجوم الأحزاب السلبي أمام الأحداث وعيناها على تحقيق مصالح أفراد الحزب وقياداته والتي من أهمها السعي الحثيث وراء السلطة بينما تتشدق بشعارات تدعي العمل من أجل الشعب والوطن والإصلاح والديمقراطية والوحدة...إلخ.

كنا نتمنى أن تفور ثورات تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن والجزائر من مراجل القوى الحزبية، أو على الأقل أن تتواجد تلك القوى على الساحة السياسية بقوة قادرة على تحقيق بديل قوي ومقنع للأنظمة التي سقطت، فنجاح ثورتي تونس ومصر وباقي الثورات مرهون بالقيادات الجديدة التي ستستولي على سدة الحكم، وسيكون من المخيّب للآمال أن نغير الوجوه والمسميات بينما تستمر السياسات ذاتها تدعم الفساد وتنهب الثروات وتنبطح للقوى الامبريالية والصهيونية، مما سيخدم إسرائيل وأمريكا اللتان سترحبان بانقضاء حقبة استهلكت رجالها حتى الرمق الأخير لتستبدلهم بدمى جديدة توهم الشعب أنهم دشنوا حقبة جديدة بينما هم يعيشون امتدادا للحقبة السابقة إنما بأثواب جديدة!  

لو كانت الأحزاب الراهنة تمتلك أدنى درجة من النزاهة والشفافية والمصداقية والقوة والوطنية والصدق، والتخطيط السليم وبرامج عمل مدروسة ووضوح في الرؤية وثبات في المبادئ والقيم والأهداف، كانت وفرت على شعوبها هذا التخبط الذي يذهب ضحيته الشعب غير المعني بالكراسي والمناصب والنفوذ بقدر ما هو مثقل بالحرمان والقهر والجوع ورغيف خبز يأكله بكرامة وهو يستنشق عبق الحرية.

وأخيرا نحن مع الإصلاح السياسي ومع محاسبة الفاسدين والمفسدين وفتح ملفات الفساد للمحاسبة والمحاكمة، والقضاء على الشللية والمحسوبية والوساطة، وتعديل قانون الانتخابات البرلمانية، وضخ هواء نقيا في رئتي الوطن الذي أعياه العبث بمقدراته و نهب خيراته والتآمر على رغيف خبز مواطنه، واحتكار موارده وتهميش أغلبيته لصالح فئة ضالة تستنزف خيراته وتتحكم بمصيره، ومع كل المطالب الشعبية التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن، إلا أننا نحذر الشعب من عشوائية المطالب والتخبط في المفردات وتقزيم مطالب وطنية عملاقة بحجم مستقبل أبنائنا وتعليبها في قوالب شخصية ضيقة أو جزئية عرضية مما يضعف الصف الواحد ويشتت الجهود ويعدم الإنجازات حتى قبل ولادتها، كما ونرفض رفضا قاطعا تحويل الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية فهذه الخطوة الخطيرة من شأنها أن تقضي على حاضر المملكة ومستقبلها ونحن نسعى إلى إنعاش الوطن لا الإجهاز عليه.