هل تغامر البي بي سي في سبعة أيام

يا لذاك الحمار!



أخذته العزة بالإثم، لما التقى أسدا ظن أنه يخافه، مرتابا من امتناعه عن مهاجمته، وقد غرته أوهامه بالبطولة لما رأى الأسد يتقهقهر إلى الوراء بينما كان يتقدم هو إلى الأمام كي يقع في فخ معشر الأسود، الذين تراهنوا على استدراج الفريسة حية ترزق إلى مخدع الوليمة !

ربما تكون ثورات الألفية الثالثة منذ عربة الخضار في تونس وحتى ميدان التحرير الأوكراني هي عمليات دفع أمامي يقوم بسحب الشوارع عبر عجلة قيادة قادرة على التحكم ،دون امتلاكها ناصية العزم المطلوبة لضمان قوة الدفع …

إنها حرب الشوارع بأحدث أشكالها، والتي أوقعها الإعلام في فخ المصطلح، فأطلق عليها اسم الثورات، بينما هي في حقيقتها احتجاجات ، انقلبت على أصحابها ليتحول بهم الأمر إلى سدنة للخراب، وينتهي المطاف بالإعلام إلى مجرد كونه دائرة للإحصاء، تقوم بخوض حرب العدد، وهو السيناريو الذي يتدحرج إلى كل الفضائيات خلال تطور الارتياب الشعبي من عملية التقهقهر المغشوشة، والتي أدت في كل حالاتها إلى الثأر من الجبن بالابنطاح على مائدة الوحوش!

في إحدى النشرات الإخبارية لقناة روسيا اليوم، كان المذيع يسأل أحد ممثلي المعارضة في البرلمان الأوكراني عن تقلص أعداد المحتجين، بينما كان المعارض يجنح إلى تقليص أهداف الاحتجاج، حيث بدأت التظاهرات من أجل انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، والخروج من الحظيرة الروسية، بينما تحول الهدف إلى إخراج بانكوفيتش من الحظيرة والإبقاء على الوهم طازجا وسالما من أية منغصات!

هذه هي تماما مآلات الثورات العربية، التي تم استهلاكها إعلاميا، وغسلها بمساحيق النفوذ الإعلامي، ثم تجفيفها كي تنشر على حبال الفضاء وقد انكمشت حتى أصبحت منديلا ورقيا، أو نكاشة أسنان تستخدم لتنظيف ما علق بأنياب الوحوش بعد التهام الوليمة!

قد تحقق تلك الإحتجاجات بعض الإنجارات في مجال حرية التعبير كما عرض تلفزيون الغد العربي في أمسية الخميس الحوارية.. برنامج أحاديث مغاربية، ولكنها إنجازات تشبه لهايات الأطفال، سرعان ما سيتم فطام الشعوب عنها، فما قاله ضيوف البرنامج عن مساحة الحرية والجرأة التي تلعب الفضائيات في مجالها الحيوي، صحيح، وبمجرد خوض مقارنة سريعة عن طبيعة القضايا التي كان الإعلام يتناولها في عهد بن علي والتي ترتكز على حالة الطقس، وبين إعلام الثورة الذي يطرح أكثر القضايا سخونة منذ رأس الرئيس، هو أيضا صحيح، ولكن هذا كله مجرد بونبون إعلامي بعد امتصاصه وهضمه، تنسى طعمه، ويتحول إلى سموم لابد من التخلص منها!

البي بي سي بين المغامرة والشجاعة

أعلن الإعلامي عرفان عرب مقدم برنامج "سبعة أيام” على قناة البي بي سي العربية، نبأ وقف برنامجه، دون أن يتطرق إلى ذكر الأسباب، أوتاريخ آخر حلقاته ..

اتصلت بالأستاذ عرفان كي أستفسر منه عن الأمر ولكنه لم يصرح أو يفصح بأي خبيء أو مُعلن حتى ، واكتفى بتوفير سبل الاتصال بالمعنيين الإداريين في القناة، والذين قاموا بدورهم بإيصالنا بالأستاذ سمير فرح مدير البرامج في البي البي سي العربية ..

الأستاذ فرح تفاجأ بإعلان التوقف عن البرنامج قبل نشر الخبر بين طاقم القناة، وطلب مهلة فقط لكي يطلع فريق العمل على القرار الذي لم يوضع بعد موضع التنفيذ، ولهذا انتظرت ولم أقم بنشر أية تفاصيل عن الخبر قبل أن يعود إلي ليلة الجمعة بما يفي ويشبع الفضول الصحافي والمهني، ويلبي حاجتنا للمعرفة، ويقنع شعورنا بالخسارة والألم لمغادرة هذا البرنامج الاستثنائي شاشة البي بي سي، على غير عادة البرامح المخضرمة التي لم تشخ ولم تهرم رغم تقادم الزمن عليها، بل استعادت طزاجتها عند كل حلقة تبعا لماهية الأحداث وتبدل الراهن ..

انطلق برنامج "سبعة أيام ” في سبتمبر عام 2010، ليطلع المشاهد على كيفية تغطية الصحافة أو معالجتها للقضايا الرئيسية خلال أسبوع واحد، حيث يستضيف أربعة صحافيين أحدهم إنكليزيا أو متكلما بالإبجليزية، وثلاثة ضيوف آخرين من خلفيات وتوجهات مختلفة، قدمه في الأول من سبتمبر الإعلامي عرفان عرب، واستمر بتقديمه لمدة عامين، إلى أن انضمت إليه زميلته الإعلامية نجلاء أبو مرعي في 23 آذار عام 2012، لتتناوب معه في تقديمه .

توالت ردود الأفعال على موقع الإعلامي عرفان عرب، تستفسر عن السبب أو الدافع الذي يحدو إدارة البي بي سي للمغامرة ببرنامج له كل تلك الشعبية، وكل هذا الاحترام الذي يلاقيه من كبار الصحافيين الغربيين والعرب في لندن، والذي كانوا في مغظمهم ضيفوفه، ولكن عرب كان مصرا على التزام الصمت.

الحقيقة أن أول سؤال وجهته للأستاذ سمير فرح مدير البرامج في قناة البي بي سي العربية كان حول المغامرة باتخاذ قرار لوقف برنامج يحظى بشعبيته وخصوصيته بين النخبة وبين الجماهير التي تتابعه، لأنه يكاد الوحيد في العالم العربي الذي يعرض الآراء الصحافية وينتقدها بأسلوب مهني وخاص، فكان جواب الأستاذ فرح أن الميزانية في أية قناة دائما تتحكم في اتخاذ قرارات قد تبدو مغامرة لكنها في كل أحوالها لن تكون مغامرة خطيرة تؤدي إلى خسارة القناة لمتابعيها طالما أن البرنامج الذي تم وقفه هو برنامج ناجح، وله مسيرته وبصمته، وطالما أن توقف البرنامج جاء في لحظة إشراقية وإبداعية متميزة، وطالما أن القناة قادرة على تطوير ذاتها وتجديد برامجها بما ينعش أداءها، ويثري طرحها، ويعزز ثقة المشاهد بنجاحاتها ..

أول ما يتبادر إلى ذهنك هو استيراتيجية القنوات الغربية بالتمسك ببرامج يمتد عمرها إلى أكثر من خمسة عشر عاما، ولم تزل مستمرة بذات الأثر وذات الإصرار على اعتمادها كعلامة صحافية غير قابلة للتبدل أو التغيير أو التنازل عنها كالهارد توك الذي بدأ منذ 1997 وحتى الآن، وتناوب عليه أكثر من إعلامي جدلي كتيم سباستيان وستيفن ساكور، وآخرون يقومون بحل محل ساكور في مناسبات معينة، وقد وافق الأستاذ فرح على هذا، ولكنه قال أن هناك خطة برامجية تراعي التجديد، والتطوير، وربما تعتمد على مبدأ استراحة المحارب، ربما يعود البرنامج مرة أخرى برؤية جديدة، ولكننا نملك أفكارا جديدة، لا نريد أن نراكمها فوق القديمة بحيث نثقل على المشاهد وعلى القناة، نريد أن نستقطب مشاهدين أكثر، وأن لا نقف مكاننا مهما كان نجاحنا فيما نعرضه كبيرا، لا بد أن نسير وأن نجدد اختياراتنا، ولا نصاب بالركود، حتى الركود مع النجاح يصبح مملا و رتيبا وقد يفقد المرء لذة الشعور به .

ربما هي لعبة شطرنج برامجية، لها أعرافها ولها رؤيتها، وشجاعتها باقتراف المغامرة في الذروة، بما ينقذ الإنجاز من الظرف والزمن والمزاجية التي تحكم المشاهد، علما بأن برنامج سبعة أيام لن يكون البرنامج الوحيد الذي سيتم وقفه، بل هناك برامج عديدة أخرى، ستغادر المنصة لتحل محلها أخرى جديدة ..

الأستاذ سمير فرح يرى في عرفان عرب وإعلاميي البي بي سي العربية شخصيات لها بصمتها وحضورها، ليس فقط في التلفزيون إنما في الإذاعة، وأن منهج البي بي سي قائم على الوفاء لها والتمسك بها، وتقدير ألمها حين يتعلق الأمر باتخاذ قرار قد يفاجئ المشاهد قبل أن يفاجئها، ولكن لا بد من الشجاعة أمام الألم وإلا سنقف في مكاننا ولن نمضي قدما ..وهو لا يناقض مبدأ الوفاء بل يكمله طالما أن الجميع يعمل ضمن أسرة واحدة تبذل كل جهودها من أجل التميز .

برنامج سبعة أيام، واكب الحدث من خلال الأقلام الصحافية، توقف عندها، وتأملها، حاكمها حينا وحينا ساءلها، أو انتقدها ليسجل استثناء في العالم العربي، من حيث انفراده بتحليل ما وراء الكتابة الصحافية ونقدها مع مجموعة من الصحافيين والناشطين والإعلاميين، وقد تشرفت بان أكون أحد ضيوفه في العديد من الحلقات .

رغم شعورنا بالخسارة إلا أننا على يقين أن معركة التجديد تلك هي معركة التحدي الأكبر الذي تخوضه أكاديمية إعلامية لها تاريخها وقاماتها الذين تخرجوا منها لينضموا إلى قنوات إعلامية قامت على أكتافهم وأسمائهم وتاريخهم المهني في البي بي سي .