أخطاء تاريخية
أخطأ المفاوض الأردني، لأنه لم يضع الأولويات الوطنية الأردنية على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين، وجعل من المصالح الأردنية العليا شرطاً قابلاً للتنفيذ، مقابل التوصل إلى معاهدة السلام الأردنية مع تل أبيب، ولم يكن المفاوض الفلسطيني، أفضل حالاً، إذ أيضاً، ارتكب أخطاء إستراتيجية، أخلت بشروط التفاوض، وانعكست على حقوق الشعب العربي الفلسطيني بالسلب، ومست بها وبمضمونها.
صحيح أن موازين القوى، بيننا وبين المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، هي التي تحكم مسار التفاوض وتحكمت فيه، ولكن موازين القوى لا تقتصر على قدرات جيش الاحتلال، وعلى مدى وصول دبابته إلى أوسع مساحة من الأرض، بل ثمة عوامل أخرى معنوية، وأغراض سياسية تسعى أطراف الصراع للتوصل لها، تضعها في حساباتها حين التوصل إلى اتفاق، والجانب الأردني مثلاً وضع ولايته على المقدسات الإسلامية في القدس، شرطاً للموافقة على التوصل إلى إنهاء حالة الحرب، واتفاق سلام مع إسرائيل، وكان له ذلك، والجانب الإسرائيلي كان يرى في الاتفاق والمعاهدة مع الأردن، قفزة نوعية إضافية لنيل شرعيته المهزوزة على أرض فلسطين، وهو يرى أن تطبيع العلاقات مع أي بلد عربي انتصار، بعد سلسلة إنجازاته العسكرية، في 48 و 67، ولكنها بقيت ناقصة سياسياً، ولم تحقق أهدافها إلا بعد معاهدة كامب ديفيد مع مصر، ووادي عربة مع الأردن، وهو الآن يسعى لاصطياد شرعيته الحقيقية والنهائية، من الشعب العربي الفلسطيني وممثله منظمة التحرير، فبدونها لا يملك شرعية، مهما حصد من القوة والتوسع والهيمنة.
إذن ثمة عوامل معنوية وسياسية ضرورية، يمكن أن يلجأ إليها المفاوض، غير تلك التي تفرضها جنازير الدبابات، وبساطير الجنود، وتحققها الجيوش في جبهات المواجهة القتالية، وأبرز دليل على ذلك تمسك المفاوض الفلسطيني برفضه وصف إسرائيل على أنها دولة يهودية، رغم إدراكه أن نتنياهو يضع ذلك شرطاً مسبقاً لعدم التوصل إلى اتفاق، لأنه لا يريد أي اتفاق يقوم على التنازل عن "أرض إسرائيل" لصالح الشعب العربي الفلسطيني، وهو لا يريد أن ينهي حياته السياسية، كما فعلها إسحق رابين، باغتياله لأنه ضحى بأرض إسرائيل، أو كما فعلها شارون في قطاع غزة، ورحل مشلولاً لأن "رب إسرائيل" غضب عليه، كما يقول حاخامات اليمين الإسرائيلي، لأنه رضخ مثل رابين وتنازل عن أرض إسرائيل.
المفاوض الأردني أخل بالمصالح الوطنية الأردنية لأنه لم يتمسك بشرطين أساسيين، كان لازماً أن يتمسك بهما، ويفرضهما على المفاوض الإسرائيلي، ثمناً لمعاهدة السلام وهما:
أولاً: إلغاء قرار الكنيست بضم القدس الشرقية الصادر في 30 حزيران 1980.
وثانياً: حق عودة النازحين بسبب حرب 1967، إلى الضفة والقدس والقطاع.
لقد ترك المفاوض الأردني للمفاوض الفلسطيني، مهام التفاوض على القضايا التي تخص المصالح الوطنية الفلسطينية في الضفة الفلسطينية وهي 1- استعادة القدس، 2- إزالة المستوطنات، 3- تحديد الحدود، 4- تقاسم المياه، 5- عودة النازحين، إضافة إلى القضية الجوهرية والعويصة والأصعب وهي عودة اللاجئين إلى مناطق 48، واستعادة ممتلكاتهم فيها ومنها وعليها، وبذلك ترك للفلسطينيين أعباء ثقيلة، هو سببها، باستثناء قضية اللاجئين، لأن الاحتلال الإسرائيلي وقع على الضفة الغربية ومن ضمنها القدس، حينما كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية قبل 5 حزيران 1967، ولذلك كان يستوجب عليه حفاظاً للمصالح الوطنية الأردنية العليا أن يحقق شرطي التفاوض، لأنهما يمسان المصالح الأردنية المباشرة وهما أولاً إلغاء قرار الكنيست الإسرائيلي بضم القدس وجعلها جزءاً من دولة إسرائيل سياسياً وقانونياً، وكان يفترض أن تتحول إلى أراض فلسطينية محتلة ينطبق عليها قرار مجلس الأمن 242، وهو القرار الذي يفرض الانسحاب وعدم الضم، وهو الذي شكل المرجعية للتفاوض الأردني الإسرائيلي وبذلك تكون القدس مثلها مثل جنين وأريحا والخليل، أراضي محتلة غير مقيدة بقرارات إسرائيلية داخلية، طالما أن المقدسات الإسلامية والمسيحية ستبقى تحت الرعاية الهاشمية الأردنية حتى يتم رحيل الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
والمصلحة الأردنية الثانية المؤجلة وكان يجب أن يكون لها الأولوية وتتمثل بالمطالبة بعودة النازحين الذين ُطردوا أو ُرحلوا بسبب حرب 1967، وهم أبناء قطاع غزة، وهم ليسوا بأردنيين، ويجب إعادتهم إلى قطاع غزة، لأنهم عبء سياسي ومالي وسكاني واقتصادي على الأردن وعلى الأردنيين، وحقهم في العودة إلى قطاع غزة حق طبيعي ومشروع، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية تستوجب بالضرورة، إنهاء تبعات حالة الحرب وتداعياتها، وفي طليعة مظاهر إنهاء الحرب عودة النازحين الذين نزحوا بسبب الحرب بين الأردن وإسرائيل، إضافة إلى أبناء الضفة الفلسطينية وأهالي القدس، فعودة هؤلاء إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم واجب، مثلما هي ضرورية للفلسطينيين هي ضرورة مماثلة للأردن وللأردنيين.
لقد تم التوصل إلى معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية والتوقيع عليها من قبل الحكومتين، وتشريعها من قبل الكنيست الإسرائيلي ومن البرلمان الأردني، ولكن تبعاتها ستبقى حية وواجبة، ومنها وفي طليعتها عودة النازحين الفلسطينيين إلى الضفة والقدس والقطاع، والعمل على إحياء اللجنة الرباعية الأردنية الفلسطينية المصرية الإسرائيلية، لتنظيم وتسهيل عودة النازحين إلى مناطق الاحتلال الثانية عام 1967، وبغير ذلك ستبقى معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية غير نافذة في بعض بنودها وموادها، وتحمل خللاً واجب التصويب والنفاذ، فمن يقرع جرس حق النازحين في العودة، الحكومة الأردنية، أم البرلمان الأردني، أم كليهما معاً، أم الأحزاب الأردنية؟ أم يتركون ذلك للفلسطينيين أنفسهم ووحدهم، ولن يتم ذلك إلا بعد تغيير موازين القوى التي ستفرض على المستعمر الإسرائيلي الرحيل بلا رجعة، وعندها فقط سيكون للفلسطينيين ليس فقط حق العودة بل وتسهيلات العودة بلا منة أو ضغط أو وسيط.
h.faraneh@yahoo.com