التعامي عن ضباع الفساد

 

 

عندما كانت الضباع تداهم وتهاجم حظائر القرى ، وتخطف الخراف والأغنام ، كانت النخوة العارمة والفزعة الزلزالية تدبان في دم الرجال ، بعد سماع أصوات الاستغاثة المجروحة ، فيقسمون يميناً غليظة أن ينالوا من هذه الوحوش اللعينة الغشوم ، وسيأتون بها مجرورة: لتصنع النعال من جلدها الثخين.

 

وبعد أن يعدوا عدتهم ، يهبون كالريح العاتية يطاردون الضبع في المغاور وبطون الجبال ، مشمرين عن عنفوانهم النزق: فيقصّون أثرها على صفحات التراب والدروب ، ويتبعونها في طريق هروبها ، حتى ولو وصلوا وجارها (بيتها في المغارة).

 

وكان يصدف أن بعضاً من الرجال المطاردين يتلبّسهم الفزع حتى من قبل أن يواجهوا تلك الضبع ، لكنهم ومن باب التجمل والتحمل يوارون هذه الرهبة ويخبئونها ، لكن آثار الأقدام تقودهم فجأة وتضعهم وجهاً لوجه مع الضبع اللائذة بفريستها ، وراء صخرة كبيرة أو خلف شجرة مشتبكة (الأنثى تسمى ضبع ، وذكرها يسمى ضبعان).

 

وبما أن الخوف يلجمهم ويمنعهم من قتل هذه الضبع ، فإنهم كان يتظاهرون بعدم رؤيتها ، ويتعامون عنها عن كامل قصد ، بل وإمعاناً بالتعامي والتغافل ، فإنهم يعيدون قصّ الأثر مرة أخرى من جديد ، فيما الضبع ماثلةً أمامهم تبرق بعينيها ، علها تولي هاربة ، وتريحهم من وعثاء المواجهة الحتمية.

 

إذا كانت مطاردة الضباع لا تحتاج لكثير من طول النفس ، ولكثير من المكابرة على لجم صهيل الخوف ، وكبت جموح الرهبة ، فمكافحة الفساد والمفسدين تحتاج بكل تأكيد لهذه الثيمات الهامة. فلا نريد ممن يطاردون ويلاحقون ضباع الفساد الغشومة في ربوعنا بلادنا ومشاريعها ، أن يدب فيهم نسغ الخوف ، فيصابون بالتعامي والتغافل والتحايل على المحسوس والملموس ، أو أن يعمدوا إلى قص الأثر ، مرة إثر مرة ، علّ الفاسدين يهربون بما غنموا: فيريحنا من مطاردة صعبة لا نحب أن نقوم بها ، ولا نريد لرجالنا أن يتحججوا بقصر النظر ، فالحقيقة شمس تموزية.

 

ما نريده في هذا البلد الذي يبدو أنه شمر همته لملاحقة المفسدين ، كما أعلنت الحكومة الجديدة. ما نريده أن نواجه خوفنا من نفوذهم ، بكل بسالة وصرامة ، وأن نلاحق ضبعهم حتى وجارهم ، ونسحب الخروف المقضوم من بين أسنانها ، ونعود بجلدها لنصنع منه نعالاً تذكارية تسير بنا نحو هدف واضح وصريح ، أن ما من أحد فوق القانون ، وما من أحد إلا تقدر عليه يد العدالة وتطوله حتى ولو كان محتميا بحضن البركان.

 

تحية لكل من سيقف سدا منيعا في وجه طوفان الخوف من ملاحقة الفساد والمفسدين ، حتى ولو كانوا متنفذين ومدعومين ، وتحية لكل من يطارد هذه الضباع الكاسرة ، وينالها حتى لو كانت في الأرض السابعة.