مكفوفون يضيئون الحياة
بيننا، يعيش أناس ينتمون إلى الحياة بمعناها الحقيقي؛ يرفضون أن تقف الخسارات والحسرات والخيبات عقبة في طريق حياتهم، بل ويصرون على أن تكون هذه الطريق المعبدة بالألم بداية لتحقيق الأحلام والانتصارات، مهما بدت صعبة أو حتى مستحيلة.
المثال الحي على هؤلاء يجسده أطفال مكفوفون، أثبتوا أن المرء حينما يشاهد الحياة بقلبه الطاهر النقي، فإنما يراها أكثر جمالاً مما يُفترض أن تنبئه عيناه. وهم بذلك لم يسمحوا أن تقف الاعاقة عائقا في وجه طموحاتهم وإبداعاتهم، فأخذوا يتخيلون شكل الحياة من طبيعة وسماء وشخوص ومحيط، مقدمينه لنا بأجمل حلة في لوحات مشرقة.
هؤلاء الأطفال عبروا عن فرحهم بعالمهم الصغير، وراحوا يتنافسون على من تكون لوحته هي الأجمل والأزهى، والأكثر تعبيرا عما يجول في الخاطر، كما ورد في تقرير الزميلة منى أبو صبح "مكفوفون يبدعون رسوما بألوان زاهية"، المنشور في "حياتنا" أمس.
"الغد" تواجدت في أروقة ورشة الرسم التي حملت عنوان "الرؤية هي البرهان" وأقيمت لطلبة أكاديمية المكفوفين، باشراف الفنان التشكيلي سهيل بقاعين، لاكتشاف المواهب الفنية في الرسم لدى الطلبة المكفوفين وضعاف البصر.
وقد وجد هؤلاء الطلبة في الرسم طريقهم لاكتشاف عالمهم ومحيطهم، وتعبير كل واحد منه عن ذلك بطريقته الخاصة، استناداً إلى أحاسيسه. فكان أن فرغوا طاقاتهم بألوان الحياة؛ كأنهم ينقلون فيضا من المشاعر إلى لوحاتهم.
هؤلاء لم يستسلموا لطغيان الفقدان والألم والاختلاف، بل حولوا كل ذلك إلى طاقة إيجابية، وطريق أمل، ونور للتمسك بالحياة. ومقاومة الألم بالتحدي، ثم الإبداع، كان ممكناً بسبب دعم وتشجيع من حولهم. لقد وجدوا يدا حنونة تبعث فيهم دفء الإيمان بقدراتهم ومواهبهم التي انتظرت من يكتشفها ويتبناها، وصولاً إلى الشعور بالفخر حتماً بأنهم جزء لا يتجزأ من مجتمعهم الكبير.
كثير من ذوي الإعاقة يعلموننا دروسا في النجاح والصبر، ومعاندة الفشل؛ بتحقيق الطموح وتحدي العواقب رغم الألم الذي يعتصر القلوب. وهم في الوقت ذاته ينتظرون منا أن نؤمن بما لديهم، وبما يستطيعون تقديمه لمجتمعهم، وتحريضهم على البحث عن مكامن القوة داخلهم، واستثمار المهارات التي يتقنونها ليواصلوا على طريق النجاح.
الأمثلة عديدة، ولا تقتصر على ذوي الإعاقة من أهل الإبداع والعلم والفن والثقافة الذين غيروا مجتمعاتهم نحو الأفضل، بأن حولوا تجاربهم وذكرياتهم الموجعة إلى عتبة يعبر عليها أفراد آخرون إلى شط الأمان.
"لن تهدنا الخسارات، مهما كانت فادحة أو ظن البعض أنها قاصمة للظهر".. هذا ما يقوله ذوو إعاقة أثبتوا أن في داخلهم مناجم من الابداع. وها هم أولاء يرددون مع إشراقة كل يوم جديد أن "لا يأس مع الحياة.. ولا حياة مع اليأس".