النخب وإعادة تعريف الولاء السياسي
ثمة محطات تلتمع فيها أضواء كاشفة؛ لا تكشف فقط عن حجم الصراع على تعريف الولاء السياسي وسط النخب السياسية الأردنية، بل تتجاوز ذلك إلى لفت الانتباه إلى التحولات الجديدة التي تعيشها هذه النخب، على الرغم مما تشهده من صراعات وشغب. وأهم ما في هذه التحولات أننا أمام بدايات جديدة لإعادة تعريف الولاء السياسي بما لا يتناقض مع تقاليد الحياة السياسية الأردنية، ولكنه يعيد ترتيب معايير الولاء السياسي لتكون أكثر وضوحا وميلا إلى مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية.
اتسمت منهجية الدولة التقليدية في بناء النخب السياسية بالأحادية القائمة على التوازن الجهوي، وبالاستناد إلى مفهوم تقليدي للولاء السياسي، لا يلتفت إلى القيمة الفعلية للانتماء التي يعكسها الإنجاز والكفاءة. وعلى الرغم من عقود خلت تم الاستناد فيها إلى مؤسسات تقليدية أوجدت نوعا من التنوع المحدود داخل حدود المدرسة السياسية ذاتها، إلا أن سنوات العقدين الأخيرين شهدت تفريغا وضعفا غير مسبوق في تكوين هذه النخب؛ ولعل ذلك أحد أبرز أسباب الانكشاف السياسي الذي تعيشه الدولة، وتراجع مكانتها في عيون مواطنيها، والذي تُرجم بشكل واضح في ضعف المجالس النيابية المتتالية، وفي ضعف الحكومات وضعف جيل من رؤساء الحكومات أيضا. وهو ما أدى إلى تنامي ظاهرة تراجع الولاية العامة للسلطة التنفيذية.
في الوقت الذي ينمو فيه الصراع وسط صفوف النخب، وهو بالمناسبة ظاهرة صحية تعني بداية التغيير، فإن ثمة العديد من الأدوات المتاحة لإعادة التوازن في النخبة السياسية، وتهيئة الدولة لمرحلة حقيقية من الحكومات البرلمانية الفعلية، سيكون صراع النخب أحد أهم مظاهرها. لكن المشكلة هي أن الثقافة السياسية الراهنة لم توفر أطراً مؤسسية لإدارة هذا الصراع، وبالتالي حسمه؛ ما يفقد الصراع معناه السياسي، ويجعله مجرد صراعات فردية من دون تأثير حقيقي في الثقافة السياسية للناس. فقيمة الصراعات داخل النخب أنها تحفّر في الثقافة السياسية، وتصبح محطات مضيئة تُحسم فيها المواقف وتكشف الغموض السياسي، حينما تستند إلى تعريف واضح للولاء السياسي عنوانه المصلحة العامة.
فَتح النشاط السياسي للدولة خلال العقود الماضية، الباب واسعاً أمام عوامل تغيير الولاء السياسي للجماعات والجهات والأقليات لصالح الولاء للنظام السياسي. وهو، للأسف، ولاء شكلي ومصلحي، لم يدشن على فكرة الدولة الوطنية. إذ يلاحظ كيف تخلت تلك الفئات تدريجياً عن وظائفها التي تؤديها مع تغير الظروف. ويظهر التعبير عن التغير في مضامين الولاء والهوية، أثناء التحولات السياسية وأثناء عملية التجنيد السياسي، وأهم مظاهره الحصص في المناصب السياسية. بالفعل، لم تفرز تلك التحولات بناء علاقة مرجعية راسخة مع الدولة، بمفهوميها الوطني والمدني، فأولئك الذين كانوا أبناء الحكومات ونخبها السياسية، ربما يتحولون إلى شلة سياسية مصلحية بعدما يتقاعدون، وبل يمارسون هواية سل الحجارة من أساسات الدولة.
في هذا الوقت الذي يبدو فيه مشروع الإصلاح معلقا في الهواء من دون أرضية يستند إليها، ومن دون نخب داخل المؤسسات تحمله، تبقى آفاق الدولة الوطنية الديمقراطية مفتوحة، وهي الفرصة الوحيدة للعبور. والمفارقة أنها مرهونة بإرادة الدولة قبل المجتمع.