تقاطعات أردنية - مصرية!!
استعاد التعاون الاستراتيجي الأردني – المصري بريقه منذ الإطاحة بالإسلامي محمد مرسي - أول رئيس منتخب- بعد أن جاهد لنقل القاهرة من حضن ما عرف بـ"دول الاعتدال العربي" الموالي لواشنطن إلى محور عموده الفقري جماعة الإخوان المسلمين، بزعامة تركيا وقطر مدعوما بتيارات إسلامية أبرزها حركة المقاومة الاسلامية (حماس).
استئناف هذه الأواصر يصب في مصلحة الطرفين: مصر والأردن الباحث عن عمق استراتيجي بشري وأمني. ويتشارك البلدان في عنصر قوة "الدولة العميقة" وبرغبة جامحة في تكسير نفوذ الإخوان في المنطقة. عمان تأمل أيضا في إحياء دائرة تأثير رباعية "الاعتدال" بمشاركة مصر، السعودية، الإمارات العربية، منذ 2003. المحور الذي حاول مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة قبل ان تتزعزع منظومته أمام رياح التغيير منذ الإطاحة بنظامي حسني مبارك وزين الدين العابدين بن علي (تونس)، وجنوح واشنطن لدعم نجم الإسلام السياسي المعتدل في إطار التعامل بواقعية وبراغماتية مع الإخوان.
لم يهدأ ترحال مسؤولين أردنيين على خط القاهرة-عمان منذ صيف 2013 بعد أن عزل الجيش - مدعوما بقوى شعبية واسعة- مرسي، الذي حاول أخونة مفاصل الدولة. تختلف هذه الوتيرة الاستثنائية مع زيارات "الحد الأدنى من المجاملة الدبلوماسية" والتي كانت تعكس أجواء جليدية بين البلدين، مع صعود الإخوان إلى دفّة الحكم في كبرى الدول العربية سكانا؛ حليف أميركا وإسرائيل الاستراتيجي، لطالما لعبت دورا بارزا تحديد بوصلة الإقليم السياسية.
اليوم يستقبل مستشفى ميداني أردني "مصر-1" قرابة 500 حالة يوميا، منذ افتتحه الأردن صيف 2013 "من باب رد الجميل والشكر لمصر وشعبها على ما قدمته للأمّة العربية". ويلاحظ تحولا في مواقف الإعلام القومي المصري تجاه الأردن بعد إزاحة وزير الإعلام الاخواني، الذي سيطر على آلة الدعاية الرسمية.
نجحت الدبلوماسية الأردنية في إقناع الحكومة الجديدة بضخ الغاز المصري مجددا للتخفيف من أزمة الطاقة والحد من عجز الموازنة، بعد الانقطاع المستمر خلال عهد الإخوان. لكن البلدين لم يعلنا عن عودة الغاز المصري منذ نهاية أيلول(سبتمبر) 2013، حتى لا تؤجج حكومة حازم الببلاوي مشاعر الشارع المستقطب، سيما أن مدنا عديدة في مصر تعاني أيضا من انقطاع التيار الكهربائي وشح اسطوانات الغاز. إمدادات الغاز انقطعت مرة أخرى قبل أسبوعين، بعد تفجير مركز التحكم بمجسّات الأنبوب.
ويبدو أن أزمة الطاقة في مصر وتكرار تفجير الأنبوب أيام الإخوان كانت وراء الانقطاعات، بخلاف قناعات مسؤولين هنا بأن مرسي يحاول لي ذراع المملكة وشحن همم الاخوان، فردّوا على حكومته بالتهديد بطرد العمالة المصرية.
قمّة التوتر والقلق بانت حين انتقد الملك عبد الله الثاني - في مقابلة مع مجلة أميركية- أداء مرسي، قائلا: إنه "يفتقر للعمق". في ذات المقابلة انتقد الملك أيضا رئيس وزراء تركيا الإسلامي رجب طيب أردوغان – حليف مرسي-.
الدفء عاد إلى خط عمّان- القاهرة بعد زيارة الملك المفاجئة إلى مصر غداة إزاحة مرسي، في خطوة إشكالية عكست توق الأردن لدعم التغيير السياسي في مصر. هناك التقى كبار المسؤولين بمن فيهم المشير عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش الذي رشحته المؤسسة العسكرية لخوض الانتخابات الرئاسية.
منذ ثورة 30 حزيران (يونيو) والزيارات لا تتوقف. آخرها كانت زيارة رئيس الوزراء عبد الله النسور إلى القاهرة يوم السبت "بصفته وزيرا للدفاع" للمشاركة في احتفالات مصر بذكرى حرب اكتوبر "بحسب الرواية الرسمية". هناك التقى نظيره المصري وبحثا سبل تعزيز العلاقات الثنائية مع الإعراب عن أمله في استئناف ضخ الغاز، وأيضا تسهيل إجراءات عبور البضائع الأردنية المصدرة إلى ليبيا.
قبل ذلك زيارة وزير الداخلية حسين هزاع المجالي ولقاؤه بنظيره المصري، وأيضا بالمشير السيسي للتباحث في كيفية مجابهة خطر زحف السلفية الجهادية المسلحة في إطار جهود وقائية وأمنية-استخباراتية.
بالطبع الأردن لا يتحرك من فراغ. فموقفه يتناغم مع الدعم السياسي والمادي الذي قدمته السعودية والإمارات للنظام الجديد في القاهرة عبر ضخ بلايين الدولارات؛ قروضا ميسرة وهبات وودائع جاءت إلى حد كبير كرد فعل على تخلي الغرب عن مصر في لحظة حرجة. ويعكس أيضا رغبة أردنية-خليجية (باستثناء قطر) في إعادة ترميم دور مصر في إقليم متفجر، يشهد تحولات تاريخية في صفائح التحالفات الاستراتيجية، على وقع التقارب الأميركي-الإيراني وصمود النظام السوري.
يوازي ذلك غموض مآلات المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية برعاية جون كيري، تجديد الوساطة بين فتح وحماس وكيفية التعامل مع الصراع في سورية. مد الجسور مع مصر الجديدة يشكّل أيضا عنصر دعم لقلق الأردن والخليج من انفتاح واشنطن على طهران ويعكس رغبة الأردن، مصر ودول الخليج العربي في إقصاء نفوذ الاخوان المسلمين وسائر التيارات الإسلامية المتشددة.
لكن ثمّة قلق في أوساط مسؤولين وسياسيين من أن رهان الأردن على ترميم دور مصر الإقليمي - بخاصة في القضية الفلسطينية وسورية- بعيد المنال سيما أن السلطات الجديدة تبدو مستنزفة وغير قادرة على فصل نطاق دورها في الإقليم عن مسار معركتها الداخلية مع "الإخوان"، والمرتبط بموقفها من حماس وقطاع غزة. علاقات مصر متوترة مع أميركا وأوروبا، حليفها التقليدي ما فرض التقارب مع بلدان الخليج العربي، باستثناء قطر التي ما تزال علاقتها بالأردن متوترة.
فمصر اليوم تركز جل جهدها الدبلوماسي والسياسي والأمني على محاصرة خطر "الإرهاب الأصولي" الذي يتخذ حاليا اسم "أنصار بيت المقدس". وقد تكون هذه الكنية غطاء لمجموعات محلية وأخرى مرتبطة بالقاعدة مع أن السلطات المصرية ومن ورائها ماكينة الإعلام الخاص والقومي تحمل "الإخوان" مسؤولية هذا الإرهاب، وتشتبه بدور لـ "حماس" في تغذية الإرهاب.
الثابت الوحيد هو علاقات مصر مع إسرائيل. فهي لم تتأثر كثيرا قبل مرسي وبعد عزله بسبب الضرورات الاستراتيجية: وقف مد خطر الجماعة، واسمها اليوم في مصر "تنظيم الإخوان الإرهابي" والتيارات الجهادية المسلحة، منها تنظيم القاعدة العابر للحدود.
لم تجد القاهرة بعد قاعدة استقرار مع واشنطن والدول الاوروبية منذ تردي العلاقات بسبب انتقادات هذه البلاد لطريقة عزل مرسي، باعتبارها انتهاكا لصناديق الاقتراع وعودة لحكم العسكر، وإن كان بوجه مدني. وكذلك انتقاداتها لاعتقال أكثر من 20.000 ناشط سياسي إخواني ويساري وعلماني خلال الأشهر الخمسة الماضية بحسب دبلوماسيين ونشطاء حقوقيين. سبب توقيفهم ينبع من معارضتهم لسياسات السلطات الجديدة المقيدة للحريات.
مصر منهمكة في ملاحقة العناصر الاخوانية وفي "كشف الوجه الحقيقي" لقطر، التي تشوش على مصر من خلال قناة الجزيرة مباشر "مصر". قطر تستضيف اليوم عديد شخصيات إخوانية وجهادية هربت من مصر بعد الثورة، وترفض تسليم المطلوبين منهم في قضايا ينظر فيها القضاء المصري.
الملاحقات بدأت بـ"محاربة الإرهاب" قبل ان تتمدد الشبكة لاصطياد أصوات غير إخوانية؛ علمانية ويسارية وقومية وثورية تعارض الواقع المتردي للحريات السياسية والإعلامية، وطريقة إقرار الدستور الجديد. هذه القوى تصف ما يجري اليوم بأنه "ثورة مضادة" على ثورتي – 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013 وبعث الدولة العميقة من خلال الاستبداد والتسلط. كل من ينتقد الحكومة - بغض النظر عن انتمائه السياسي والايديولوجي- يوضع في خانة "الإرهاب والإخوان"، ويتعرض للمقاطعة من غالبية وسائل الإعلام، في بلد فقد فيه منطق المحاججة بسبب الانقسامات السياسية العميقة.
مصر تحارب أمنيا على كل الجبهات في ظل تحديات تعزيز معداتها العسكرية وإعادة تنظيم هيكل القوات المسلحة؛ وسط مخاوف من تعمق المواجهة بين الجيش والإخوان قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها. وهناك تداعيات قضية سد النهضة الذي تسعى اثيوبيا الى بنائه على النيل الى جانب مطاردة التيارات الجهادية في سيناء.
هذه الملفات الثلاثة أفقدت مصر عناصر قوة استراتيجية وقلّصت دورها التقليدي، بخاصة ملفات القضية الفلسطينية والسورية وإعادة التموضع أمام تداعيات الصفقة الأميركية الإيرانية وإمكانية زيادة نفوذ طهران في ملفات المنطقة العالقة.
مصر ستحتاج إلى سنوات لعبور المرحلة الانتقالية. فمن المستبعد عودة الاستقرار السياسي بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. الإخوان لن يختفوا كعنصر رئيس في تركيبة الحياة السياسية حتى وإن تم إقصاؤهم. فهم معتادون على العمل بسرية وسط توقعات بأن يجنحوا للتصعيد.
لكن عمان اليوم تتنفس الصعداء ومستعدة لتقديم كل أشكال الدعم السياسي والأمني لنظام الحكم الجديد-القديم قيد التشكل في مصر. محليا، دخلت القيادة في مرحلة استرخاء. حتى صوت إخوان الأردن خفت، تراجع حراك الشارع، وغدا التحدي الاقتصادي أولوية الغالبية مدعوما بأمن واستقرار وليس بإصلاحات سياسية رديفة قد تفتح "أبواب جهنم" على مصاريعها.