سقط النظام والإعلام والأيديولوجيا

 

نعم.. الثورة المصرية تُسقط النظام الحاكم، فيسقط معه الإعلام الرسمي، وتسقط الأيديولوجيا.

 

ففي 18 يوماً فقط، سقط نظام حاكم قبض 30 عاماً على أنفاس المصريين ومن جاورهم، وعلى فضاءات القرار العربي، ولم تشفع له ملايين رجال الأمن الذين نظمهم، ولم يسعفه تحالفه مع رجال البزنس على حساب المواطن البسيط، ولم يدافع عنه حزب وصلت أعداد المنضوين تحت يافطاته إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون مصري وقعوا على استمارات عضويته، لأنه ثبت -وفي أكثر من تجربة- أن لا أحد يريد أن يدافع عن ديكتاتور ونظام ظالم.

 

السقوط الثاني كان للإعلام. وكعادته، فإن الإعلام الحكومي الرسمي كان لا يرف له جفن وهو يزيّف الحقائق والوقائع، فالملايين التي خرجت في القاهرة وفي أغلب المدن المصرية للمطالبة بتنحي الرئيس لم تشأ كاميراته التقاط صورهم وتسجيل هتافاتهم رغم أن حناجرهم بُحّت، بل تجاهلهم وقفز عنهم بكل خفة وبساطة، مسلطاً الضوء على آلاف قليلة خرجت لإعلان تأييدها للرئيس، بعد خطاب دغدغ فيه العواطف والمشاعر.. لتتحول هذه الآلاف، بقدرة قادر، إلى "ملايين" كما عنونت "الأهرام"!

 

لم يكتف بذلك، بل حاول الإعلام الرسمي تصوير الانتفاضة الشعبية وكأنها "مؤامرة دنيئة" من جهات خارجية، وتحدث المسؤولون عن "أجندات خاصة اندسّت" بين الشباب، واستغلت الحركة الاحتجاجية، وكأن الملايين الذين نزلوا إلى الشارع هم "أدوات أو خونة"، وبأحسن الأحوال "ناقصو وطنية أو سذّج مغرّر بهم"!

 

ترى ألم يحن الوقت لطريقة تفكير وخطاب إعلامي آخرين لدى كل المسؤولين عن وسائل الإعلام العربية، بدلاً من الفضائح التي يقعون فيها، ويحطمون مستقبل العاملين معهم، وبخاصة الذين يتواطؤون مع هذه السياسات؟

 

السقوط الثالث كان من نصيب الأيديولوجيا والأحزاب التقليدية. فقد تفاجأنا بمستوى ثقافة الشباب الذين نظموا هذا التحرك وأطلقوا شرارة الثورة. كانوا مدهشين في مقابلاتهم وثقافاتهم وتنوع أفكارهم. شباب ناعمون، لم تلفح جباههم معسكرات التدريب، ولم ينخرطوا في مفاهيم الديمقراطية المركزية، متعلمون، عصريون، أنيقون، والواضح أنهم من أبناء الطبقة الوسطى والشريحة الأعلى منها. يحلمون بغد جديد ومصر جديدة، لم يتلوثوا بتكتيكات الأحزاب، ولم تنتقل إلى جيناتهم نزعات الخبث الحزبي والاحتكار، مخلصون، ومتسامحون. كل الطيبة المصرية تلمع في عيون الشهيدة سالي زهران، فهي مغسولة جيداً بطمي النيل. الذكاء يقطر من فم وائل غنيم الذي لم يدخل يوماً في مدارس الأحزاب، ولم يتعلم لغتها الخشبية.

 

شباب قادوا انتفاضة شعبية شاملة بشعارات محددة (ديمقراطية، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية)، منتمون إلى 11 حركة أو مجموعة شبابية احتجاجية من دون بنية أيديولوجية أو تنظيمية محددة، ومن دون ارتباط بأي من الأحزاب التقليدية، الشرعية أو غير الشرعية، عشر منها يمكن توصيفها بـ"حركات يسارية ديمقراطية أو ليبرالية"، وواحدة فقط إسلامية التوجه، لكنها لا تنتمي للإخوان، بل هي أقرب إلى أفكار "حزب الوسط"، موقفهم هو المساواة في المواطنة من دون تمييز في الدين أو الطائفة، ويرون مساواة المرأة والرجل.

 

الأحزاب التقليدية سقطت لصالح الجماعات الشبابية، التي لم تنقصها القدرة على التنظيم والتحرك. الإخوان المسلمون لم يقتربوا من ميدان التحرير في الأيام الثلاثة الأولى، وهذا ما قاله القائد الإخواني عصام العريان. والفضيحة الأكبر للإخوان انهم شطبوا صورة الشهيدة سالي زهران من مطبوعاتهم عن الثورة، كما فضح رفعت السعيد موقف حزب التجمع الذي صرّح في بداية الثورة بأنه ترك لعناصر التجمع القرار في المشاركة، وباقي الأحزاب كانت في حالة تقاعس مفضوحة.

 

سقطت الأيديولوجيا لأن كثيراً من الباحثين والمتابعين اعتقدوا أن أي تحرك ثوري حقيقي في مصر، سيقوم به العاطلون عن العمل والفقراء وسكان العشوائيات الذين يزيد عددهم على 14 مليوناًَ، ما حدث هو الضد تماماً من هذه الرؤية المحدودة لإمكانات التحرك، فمن قام بتنظيم وتفعيل ما جرى في ميدان التحرير ومعظم مناطق التحرك، هم شباب متعلمون، لم يخططوا فقط، بل استمروا بالعمل الميداني حتى الآن. هذه "الطبقة" التي ظننا أنها قد تهاوت في مصر وفي معظم أرجاء العالم العربي عادت إلى الحياة من جديد لتعلن وجودها وقدرتها على التغيير لصالح كافة الطبقات الاجتماعية.