الانترنت كشف المستور

الإعلام ركن أساسي من أركان الحياة الإنسانية , وقد أولاه الإنسان عناية خاصّة منذ القدم , وكان يستأثر به الأقوياء للتفرّد بالسيادة والسيطرة , ويجاهد المصلحون ودعاة التغيير على امتلاكه لتزيين ما عندهم , وتعرية خصومهم , وقد كانت أهمّ وسائله الشعر, والخطابة والقصص , وسائر فنون الأدب , والتاريخ ثمّ تطوّر في العصر الحديث فكانت الصحافة والإذاعة والتلفاز إلاّ أنّها ظلّت شبه محتكرة بيد فئة قليلة تتحكّم فيما ينشر أو يسمع أو يرى , فكانت الأغلبية الساحقة مجرد متلقية , وتتداول ما يشاع وما يذاع في مجالسها , وتتهامس ببعض أمور تتسرّب إليها من أصحاب نوادي الحكم والصالونات السياسية .

جاءت العولمة مسلّحة بما يلزمها فكانت الفضائيات التي اخترقت جميع الحجب , ودخلت كلّ بيت متحديّة ما كان يفرض من رقابة على ما يسمع وما يرى إلاّ أنّها أبقت المواطن العادي مجرد متلق وإن بدأ يسمع ويرى ما لم يكن يسمعه أو يراه هو وآباؤه الأولون , ثمّ تطوّر الأمر قليلا بالسماح بالمشاركة في بعض البرامج بواسطة الهاتف فبدأ الصوت الشعبي يظهر وإن كان خافتا .

وإن هي إلا فترة وجيزة حتى غزت شبكة الانترنت كلّ بيت , وانتشرت الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي في هذا الفضاء فأصبح التعبير والكتابة في متناول الجميع , فتحوّل الشعب كلّ الشعب إلى كتاب وأدباء وشعراء ومفكّرين , ولم يعد أحد بحاجة للاستماع أو القراءة فالكلّ أتيحت له الفرصة لأن يكون هو المتكلّم والكاتب والمخاطِب والخطيب , وأمر طبيعي أنّ من كان مجبرا على الاستماع عبر الأجيال أن ينتهز هذه الفرصة لممارسة حقّه في الكلام الذي حُرِم منه , علاوة على قاعدة " كلّ عقله برأسه مدينة " .

إنّ هذه الثورة في عالم الاتصالات والإعلام قد كشفت ما لا يتخيله عقل من مستوى الشعوب العربية التي كافحت الأميّة طيلة قرن من الزمن , وانتشر فيها التعليم بشكل واسع , فظهرت عارية من العلم والفكر والثقافة وإن زينت جدران البيوت بعشرات الكراتين المبرّوزة المسمّاة بشهادات جامعية من مختلف الأحجام , والأشكال , والأوزان , وإن سبقت الأسماء الألقاب

العلمية والدالات ونقطها , فكان ما ينشر مادّة دسمة للقوى الكبرى التي تتحكّم في حياة هذه الشعوب , وكأنّ هذه الفوضى في هذا الميدان هي أول ركائز " الفوضى الهدّامة " التي أسموها بالفوضى الخلاّقة تضليلا للبلهاء , فهي قد حولت هذه الشعوب إلى عشرات الملايين من الشعوب حيث أصبح كلّ فرد له عالمه الخاصّ , وكأنّه شعب لوحده , فالكلّ له فكره الخاصّ , وآرائه الخاصّة , فهو عالم مستقلّ بحدّ ذاته .

لن أقف عند ما ينشره مراهقو القلم , والذين يتخذون الكتابة للتسلية وإن كان ما ينشره هؤلاء يكشف عن خلل فظيع , ولكنني أقف مشدوهة أمام من يفترض بهم العلم والجدّية من حملة الشهادات العليا , وأتساءل عن هذا الكم الهائل من هذا الصنف لو كان فعلا يحمل تلك الألقاب بجدارة واستحقاق لكنّا في مجتمع المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفلاسفة والمصلحون !!

ولا يصوّب مسار الفكر إلاّ النقد البنّاء فغاب النقد البنّاء وحلّ محله المجاملات الفارغة من جهة والنقد البذيء الحاقد من جهة أخرى , وإن كنت في شكّ من ذلك فانظر إلى تعليقات القرّاء على ما ينشر في المواقع الإلكترونية , حيث يغيب في الغالب نقد النصّ المعروض , وينشغل الناقدون بشخص الكاتب وهم في الغالب لا يعرفون عنه شيئا أو هم يتعمدون الإساءة إليه لحسابات شخصية أو بناء على توجيه من جهة ما , ويقابل هؤلاء صنف يكيل المديح للفكرة ونقيضها , ولا يخطر في باله أن ينبّه الكاتب لخلل أو خطل ربما مجاملة وربما لعدم إدراك لما يطرح .

الخلاصة الحال لا تسرّ , والواقع مرعب , وهذه الفوضى لن تسمح للأمّة بالتقدّم خطوة واحدة , وأتمنى _وليس كلّ ما يتمنى المرء يدركه _ أن ينهض أهل العلم وفرسان القلم ومنابر الإعلام والتوجيه إلى مستوى المسؤولية لإخراج هذه الشعوب المضللة المجهّلة من هذه الحال التي تسير فيها إلى الفناء في هذه الفوضى الهدّامة التي استثمرها المستعمرون بل المستعبِدون أسوأ استثمار .