انعطاف هام في العلاقات الإيرانية- الغربية

 

أخبار البلد

بعد مرور ثلث قرن من القطيعة، وانقضاء عشر سنوات من التأزم والتوتر حول ما أُطلق عليه اسم «برنامج إيران النووي» وقَّعت إيران مع دول /مجموعة 5+1/ اتفاقاً مرحلياً هاماً لفت أنظار العالم أجمع، كونه جاء بعد انتظارٍ طويل، وبعد أخذٍ ورد بين الجهات المعنيَّة ومحاولات عرقلة كثيرة قامت بها إسرائيل وحلفاؤها من اليمين الأمريكي داخل الولايات المتحدة بالتنسيق مع «الإيباك» الصهيوني هناك.

 
والآن ماذا تضمن هذا الاتفاق؟... يقضي الاتفاق بتجميد أنشطة إيران النووية، ووقف التخصيب فوق خط 5%، وفتح المنشآت الإيرانية النووية أمام عمليات التفتيش الدولي، مقابل عدة أمور وإجراءات منها: الإفراج عن أرصدةٍ إيرانية مُجمَّدة، ورفع الحظر جزئياً وبالتدريج عن الصناعات النفطية والبتروكيماوية والمصارف الإيرانية.
 
حتى الآن، لا يُعْرَفُ الكثير عن الاتفاق الذي قيل إنه يتألف من خمس عشرة صفحة، لكن ما تمَّ إيراده من معلومات وتسريبات عبر وسائل الإعلام التي «استنفرت» على مدى أيام وساعات لتغطية لحظة الانعطاف التاريخية، يكفي للقول إن اختراقاً نوعياً قد وقع في مجال علاقات إيران مع الغرب، وأن هذا الاتفاق إن أحسن الطرفان تنفيذه بعيداً عن محاولات عرقلته من قبل إسرائيل وحلفائها، ومن بعض دول الخليج خاصة منها السعودية، سيقود إلى سلسلة من الاتفاقات اللاحقة، وأن صفحة جديدة قد فُتحت في علاقات طهران مع واشنطن والعواصم الأوروبية الأخرى.
جدير بالذكر هنا أن الموقف السعودي من هذا الاتفاق بلغ درجةً غير مسبوقة من «العهر» والمزاودة إلى حدٍّ تفوَّق على الموقف الإسرائيلي من الاتفاق المذكور، وذلك عندما صرح مصدر سعودي مسؤول «بأن النوم سيجافي سكان الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي الإيراني الذي وُقِّع بين إيران ومجموعة الدول /5+1/».
بالطبع مثل هذا التصريح مُخجل ومُعيب إلى حدٍّ كبير، ويدلُّ على غباءٍ سياسي منقطع النظير. وهنا لابد من سؤال صاحب هذا التصريح، هل اعتدت إيران على أية دولة عربية أو غير عربية خلال أربعة وثلاثين عاماً مضت على قيام الثورة الإيرانية؟ إذاً، لماذا هذا الأرق المتوقع والقلق السعودي المصطنع؟ لماذا لا تقلق السعودية من إسرائيل التي اعتدت أكثر من مرة على العرب عبر حروب مُدمرة ومعروفة وعبر احتلالها لفلسطين ومواصلة قمعها واضطهادها للشعب الفلسطيني؟ أعتقد جازماً، أن مثل هذا التصريح أُملي على السعودية، لأن الذهن الدبلوماسي السعودي لا يمكن أن يصوغ مثل هذه العبارات المُنمَّقة كونه معروفاً بالغباء، ولا يمكن أن تتفتّق عنه مثل هذه الأفكار والصور والتوصيفات والعبقريات.
من جهة أخرى أدى الاتفاق إلى شجار بين الولايات المتحدة من جهة وإسرائيل والسعودية من جهة ثانية، وراحت السعودية تُنسِّق مع إسرائيل وتتعاون معها علناً ضد هذا الاتفاق كما تعاونت ولا تزال تتعاون معها لتعطيل انعقاد مؤتمر /جنيف2/ الخاص بتسوية الأزمة السورية.
كذلك تجدر الإشارة إلى مسألة هامة في هذا الإطار، وهي أن صمود سورية في وجه الحرب التي تُشنُّ عليها منذ أكثر من عامين ونصف العام، ساهم إلى حدّ كبير في إنجاز هذا الاتفاق بين إيران ودول الـ5+1، وشكل انتصاراً لإيران، لأنها كانت الهدف الثاني بعد سورية على أية حال يُعتبر هذا الاتفاق التاريخي حَلاً لأصعب العقد السياسية العالمية، حسبما أكد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، ولا شك بأن لروسيا أيادي بيضاء أيضاً في إنجازه.
إن الاتفاق الذي أنجز بعد أسابيع من التعطيل والممانعة الفرنسيين، لاقى ارتياحاً دولياً واسعاً لم تشذّ عنه سوى إسرائيل وبعض الدول الخليجية، وبطبيعة الحال، لكل منها أسبابه وأولوياته الخاصة... بالنسبة لإسرائيل الأسباب تكاد أن تكون معروفة للجميع، إذْ لا يوجد اتفاق جيد مع إيران إن لم يشتمل على استئصال قدرات إيران النووية والعلمية والمعرفية استئصالاً تاماً ونهائياً... أما بالنسبة لبعض دول الخليج، لاسيما منها السعودية، فإن القلق مُصطنع، ويأتي في إطار المزاودة ومحاولة الالتصاق أكثر بأمريكا وإسرائيل.
على أية حال، يمكن القول إن قطار التقارب الإيراني- الغربي قد انطلق، وليست هناك قوة دولية أو إقليمية قادرة على وقف سيرة واندفاعه، صحيح أن معارضي الاتفاق الذين فشلوا في منع التوصل إليه، سيحاولون عرقلة تنفيذه، بيْد أن الصحيح كذلك، أن الاتفاق بات «حاجة»، كما بات «مصلحة» ملحة للدول التي أبرمته، فليس الغرب راغباً، أو قادراً إن هو رغب على إشعال أتون ثالث حرب كبرى في الشرق الأوسط الكبير في غضون عشرة أعوام، ولا إيران قادرة على احتمال المزيد من وطأة وآثار العقوبات الدولية التي كادت أن تؤثر على قدراتها الاقتصادية، ومسَّت حياة كل مواطن على أرضها، ولذلك كله، فالأرجح أن الجانبين سيذهبان إلى تنفيذ الاتفاق بذات الحماسة التي جعلت التوقيع عليه أمراً ممكناً.
بحسابات الربح والخسارة، يمكن القول إن الاتفاق يعكس بدقة معادلة «رابح-رابح» في العلاقات الدولية مع ميْل أكثر لصالح إيران حسب تقدير خبراء دوليين محايدين، وسيكون بمقدور الموقعين عليه العمل على تسويغه وتسويقه في مواجهة ألدّ الخصوم من محافظين أمريكيين ومناوئين آخرين له في فرنسا والسعودية وإسرائيل... إيران، يمكنها أن تقول إنها انتزعت نصراً يتمثل في الاعتراف بحقها في التخصيب وإن كان تحت سقف الـ/5/بالمئة، إلى جانب الإفراج عن أرصدةٍ لها جمدتها الدول الغربية، ورفع الحظر جزئياً في بداية الأمر عن الصناعات النفطية والبتروكيماوية والمصارف الإيرانية، والغرب بمقدوره الإدعاء بأنه نجح في وضع البرنامج النووي الإيراني السلمي بالأصل، تحت سيطرة أعين الوكالة الدولية للطاقة النووية.
بالنسبة لإسرائيل، فإن الاتفاق الذي فشلت في الحيلولة دون التوصل إليه، فهي عدته بمثابة خبر سيئ للغاية، لدرجة انه يستدعي «الحداد» لا الاحتفال على حد تعبير مسؤول صهيوني، وهذا الموقف ليس مستغرباً من جانب إسرائيل، ومفهوم من زاوية «نظرية الأمن الإسرائيلية» التي يسعى القائمون عليها إلى ترجمتها على أرض الواقع باستئصال البرنامج النووي الإيراني حتى ولو كان سلمياً، وتجفيف منابع المعرفة النووية والتكنولوجية الإيرانية، حتى وإن تطلب الأمر إخضاع ثمانين مليوناً من الإيرانيين للتخلف والجهل والفقر والظلام.
أما بالنسبة لموقف البعض من عرب المنطقة- وتحديداً السعودية- فهو ينطلق من الخشية من أن هذا الاتفاق سيساعد إيران على تعزيز دورها في المنطقة، لأنه سيخرج إيران من شرنقة العقوبات التي أضعفت اقتصادها وخزانتها، فالسعودية تريد أن تبقى المنطقة العربية بأسرها خاصة في الخليج مزرعة لأميركا وميداناً فسيحاً لقواعدها العسكرية ولنشاطاتها التجسسية التي تصب في حماية إسرائيل وتعزيز دورها في المنطقة ولعل هذا ما يفسر قول مسؤول سعودي بأن المنطقة سيجافيها النوم بعد إبرام هذا الاتفاق.
على أي حال، فإن مواقف معارضي الاتفاق مواقف هشة، ولن تجدي نفعاً وهم يدركون ذلك تماماً، ولذلك لمس العالم أجمع الارتفاع الملحوظ في منسوب العصبية والانفعال اللذين تعكسهما تصريحات المسؤولين في السعودية وإسرائيل وفرنسا، وخاصة أن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية أدركت أن ثمة فرصة لاستعادة مصالحها في إيران، تفوق في أهميتها «مخاوف» الخائفين وحسابات «المتحسبين»، إلى جانب أن رهان العواصم الغربية إنما ينطلق اليوم مما يمكن تسميته بـ«الديناميكيات الجديدة» في العلاقات الإقليمية الدولية التي سيوفرها الاتفاق الجديد، وخاصة أن تطورات الأحداث أكدت لهذه العواصم وفي مقدمتها واشنطن ولندن أن إيران جزء من الحل لأي مشكلة في المنطقة.
بقي أن نقول إن هذا الاتفاق سيكون له أثر ايجابي على تسوية الأزمة السورية سلمياً وعن طريق الحوار كما ستكون له تداعياته الايجابية على صعيد القضية الفلسطينية وغيرها من المشكلات الشائكة في المنطقة.
ولربما كان الاتفاق على موعد انعقاد جينيف 2 أحد أبرز تلك التداعيات السريعة.