في ذكـرى أبي
يوم أمس الأول، مرت الذكرى الثالثة عشرة لوفاة والدي الذي لم يغب عن ذاكرتي قط. فكثيرة هي الأسباب التي تجعل حضوره يوميًا في حياتي، فحيثما كنت في الأردن أو خارجه التقي بمحبيه وعارفيه الذين يحدثونني عنه، وعن ذكرياتهم معه، فتتضاعف ذكرياتي عنه ويزيد حضوره في فكري ووجداني. لذلك لا أشعر أنه غادرنا في سفره الأخير الذي ظل يتزود له مدى حياته، وظل علينا نحن من بعده ان ندعو له ان يتقبله ربه بقبول حسن، كما كان يحب ويتمنى، ونتمنى نحن الذين نحيي هذه الأيام ذكرى رحيله عنا، وهو الإحياء الذي أخذ معي هذا العام منحىً جديدًا. إذ إنني كنت بغير تدبير مني أقف في ليلة وفاته هذا العام حيث وقف هو، في نفس الليلة ينظر إلى طهران من أعلى نقطة مطلة عليها ليلتفت إلى مرافقه وصديقه الشيخ جواد التسخيري قائلاً له: إنها آخر مرة يرى فيها هذه المدينة كما أخبرني الشيخ منذ سنين، وقد كان ذلك ما حدث فعلاً. إذ إن ربه اختاره إلى جواره في صبيحة تلك الليلة التي قال فيها قولته تلك يرحمه الله. وها أنا أقف حيث وقف وقفته الأخيرة أبكيه بصمت، فلم أكن أرغب بأن أفسد على مجموعة الشباب الأردني الذين كانوا يقفون معي يتأملون في المدينة وامتدادها متعتهم بما يشاهدون، خاصة وقد كان ابن عمي ياسر قدري التل يحدثنا في تلك الأثناء عن قصة نجاح أردنية تمكن من نسج خيوطها في طهران، حيث تمكن من إقامة مصنع للأوراق الصحية لحساب شركة «نقل الأردنية» صار إنتاجها اليوم يغطي كل السوق الإيراني، ويقف في طليعة المنتجات المشابهة. مما يضيف دليلاً جديدًا على قدرة المنتج الأردني على المنافسة، وقدرة الإنسان الأردني على تحقيق المستحيل، واختراق الحواجز، والانتصار على الصعب، عندما تتوفر له المناخات السليمة. واعتقد ان نجاح هذه التجربة الأردنية في إيران تقول لنا: إن أمام صناعاتنا واقتصادنا على وجه العموم سوقًا واعدة إن أحسنا استثمارها،-كما كان يقول أبي رحمة الله عليه-الذي أحييت ذكرى وفاته هذا العام وأنا أقرأ في وجوه من كانوا يحيطون به يوم وفاته، وقد تقاطروا من كل أقطار الدنيا ومذاهب المسلمين ليتحدثوا بلغة واحدة، يحدوهم أمل واحد، هو كيف تنهض الأمة من كبوتها، وتجمع كلمتها، وترص صفها، من خلال التفافها حول مشتركاتها وجوامعها، وهي أضعاف أضعاف ما يفرقها. فلماذا تفعل أسباب الفرقة على قلتها أضعاف ما تفعله أسباب الوحدة على كثرتها؟ وهذا سؤال كبير على المفكرين والعلماء من أبناء الأمة التوقف عنده، والبحث عن إجابة له، لأن في هذه الإجابة يكمن الجزء الأكبر من حل مشكلاتنا، التي صارت تتوالى توالدًا سرطانيًا أخبث أنواعه هذه الفتنة المذهبية التي يقتل فيها بعضنا البعض على الهوية، حيث صارت المفخخات هي الرسائل المتبادلة بيننا، وصار الانتحاريون هم رسلنا إلى بعضنا البعض.
أقول: إن على علماء الأمة ومفكريها ان يبحثوا عن الإجابة على السؤال عن سر فعل أسباب الفرقة على قلتها فعلها في الأمة، هو ما فعله والدي الذي أمضى حياته رافعًا لواء وحدة الأمة، وقضى في مؤتمر كانت وحدة الأمة محورًا رئيسًا من محاوره، ورغم مرور كل هذه الأعوام على وفاته، فما زالت الكوكبة التي كان يعمل معها لتحقيق هذا الهدف متمسكة به، عاملة لتحقيقه، رغم اشتداد الهجمة على الأمة، وما زالت تجوب أقطار الأرض مبشرة بفكرة الوحدة، فأمامي وفي يوم ذكرى وفاة والدي يجتمع العرب من الخليج إلى المحيط: جزيرتهم وشامهم وعراقهم ومغربهم، ومصرهم، وسودانهم، مع العجم فرسهم وأتراكهم وشركسهم وهنودهم يتحدثون بلغة واحدة، ويدعون إلى هدف واحد. فلماذا لا يتحقق هذا الهدف؟ ولماذا يجري كل هذا الذي يجري على الأرض من أسباب الفرقة؟ سؤال أهمس به إلى نفسي بما يشبه النجوى، ليأتيني الجواب همسًا من الشيخ محمد سعيد النعماني، حبيب أبي ورفيق دربه، وليرتسم جزء آخر من الجواب على ملامح وجه الشيخ محمد علي التسخيري، هذا الشيخ الذي لا يكل ولا يمل من الدعوة لصحوة الأمة ووحدتها، والتحذير من خطر الفرقة على كل مكون من مكوناتها، وليأتيني جزء آخر مرسومٌ على وجه الشيخ محسن الأراكي الذي طالما جمع الناس على كلمة سواء. وليأتيني بعد ذلك ومن وراء الغيب جزء من الإجابة وأنا أتذكر ما كان يكتبه أبي عن الفصام النكد الذي تمكن من الأمة، بين قول أبنائها وأفعالهم، ولعل هذا مما أتعبه كثيرًا رحمه الله وجعله زاهدًا في هذه الدنيا مستعجلاً سفره الأخير إلى حيث كان يحب، فقد أمضيت الأسبوع الأخير من حياته معه في مقر منظمة اليونسكو في باريس، وعندما عرضت عليه ذات ليلة من ليالي ذلك الأسبوع ان نخرج في جولة باريسية كان رده: لقد تعبت من دنياكم ولم يعد لي فيها من غرض ليغادرها بعد أقل من أسبوع، كأنما أراد الله ان يريحه من هذه الدنيا التي أتعبته بفرقة أمته.. فرحل دون مقدمات إلى حيث كان يحب، ليكون هول الصدمة الكبيرة يرحمه الله.
Bilal.tall@yahoo.com *