المحترفون


صنفان من الناس ، يُقابلوك في كلّ مكان ، في العمل وفي الأماكن العامّة والمنتديات واللقاءات . موجودون في وسائل الأعلام ، وعلى صفحات الصّحف ، وفي وسائل التواصل الاجتماعي . ولكثرتهم أصبحوا ظاهرة ، تستحق المتابعة والاهتمام والمناقشة . كلّ صنفٍ يرى نفسه على حق ، وأنه يرى ويعلم ما لا يراه أو يعلمه الآخرون . ولكثرة الممارسة أصبحوا محترفين . والاحتراف فنٌ وإتقان ، ينتج بعد طول عهد بالمهنة وخبرةٍ طويلة . وربما انتقلت بالجينات فتوارثها الأبناء عن الآباء .
الصّنف الأول هم محترفو النّقد ، ينظرون إلى الناس والأشياء والحياة من خلال نظارات سوداء سميكة ، وكلما كانت أكثر سماكة وأشد قتامة ، أشعرتهم بنوعٍ من الراحة بأنّ رأيهم هو الأصوب ونظرتهم هي الأسلم . أو عدسات يستعملونها حسب مقتضى الحال . يُكبرّون الصغير الدقيق الذي لا يكاد يُرى . فيجعلون منه شيئا وحدثاً ضخماً . ويُصغّرون الكبير الضخم ، ليُقزّموه أو ( يسخطوه ) ليجعلوه أثراً بعد عين .
هؤلاء لا يُعجبهم شيء ، بل ربّما لا يعترفون بوجود أي خيرٍ أو انجاز . فالحكومات لم تُنجز شيئاً ، يستقبلونها قبل التشكيل بالتشكيك وعند التشكيل بالنقد والتبشير بعدم قدرتها على عمل شيء . ثم تُمطر بسيلٍ من النقد لا ينتهي مع كلّ خطوة أو تصريح أو قرار . يتوقّعون رحيلها قبل أن تُباشر مهامها .
وحتى لا يظنّ ظانٌّ أنّ أتباع هذا المنهج هم تخصص حكومات فقط ، بل إنهم لا يُوفّرون جهةً أو فرداُ . وربما أصاب هذا الداء مسؤول ، فعندها فانّه يُذيق مرؤوسيه من العذاب ألوانا ، فتكثر المشاكل ، فيتعثّر العمل ويتراجع .
وبعضهم كي يُسوّغ ما يقوم به ، يصف ما يقوم به بأنه نقدٌ بنّاء . وبينه وبين البناء ما بين المشرق والمغرب . وكأنّ هناك فارقٌ بين ما اُصطلح على تسميته بالنقد البنّاء والنقد الهدّام . فمن أراد أن يُصلح فهناك النصيحة لا النقد . وللنصيحة شروطها وآدابها .
أمّا الصنف الثاني فهم محترفو النفاق ومدمنوه . وهؤلاء يختلفون عن الصنف الأول بأنّهم يُزيّنون كل شيء ويُجمّلون كل قبيح ويمدحون كل عمل وان كان فاشلا . ويقلبون الحقائق لتبدو أفضل وأجمل .
يتقرّبون من المسؤول ، وهم عادة يجدون أيسر السيل للوصول إليه ، وغالبا ما يعملون بشكل مجموعة مرتبطة بالمصالح والامتيازات وربما أصبحت طبقة . يمتازون بحلاوة اللسان والقدرة عل الإقناع . ولابد لهم من الوصول إلى عقله وقلبه . ولكل إنسان مدخل ومخرج ، وهم محترفون في ذلك ، فهذا اختصاصهم الذي أتقنوه ووضعوا له قواعد وأصول حتى أصبح علماً .
غالباً ما يكون سبب استشراء هذا الدّاء ووجود زبائن وأنصار له ، أنه يُؤتي أُكله وله نتائج وعائدات سريعة وكبيرة دون تعب ولا نصب ، وذلك بوجود لسانٍ ناعم وأُذن تسمع وترضى ونفس تطرب وترضى وتنتشي ، بل وتطلب المزيد . فالنفس البشرية ترتاح للثناء والمديح .
هذا الصنف هو آفة المؤسسات ونذير خرابها ، ونقطة ضعف كل مسؤول وسبب فشله . وعلاجه بالمؤسسيّة وأن يكون معيار التقديم والـّأخير هو العمل والانجاز وليس التّزلّف والنّفاق . عندها لن يكون لأمثال هؤلاء مجال أو مكان .
لست أدري أيّ هذين الصنفين أشد خطرا وأكثر ضررا ، فقد انتشرا حتى أصبحا آفة اجتماعية تعاني منها مجتمعاتنا ومؤسساتنا ، يجب محاربتها والتخلص منها ، وعدم الالتفات لمن ينتقد أو ينافق .