«المفاوضات» الفلسطينية - الإسرائيلية: جذر المشكلة


 

في ظل الظروف التي تعيشها المنطقة، لعل «مشكلة المشاكل» تكمن بقبول القيادة الفلسطينية الإملاء الإسرائيلي برفض التعاطي مع أي طرف دولي، سوى الولايات المتحدة، منذ نهاية الثمانينيات. ومن واقع المواقف والأحداث، لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة متحررة أساسا، فهي غالبا مضطرة لاتخاذ الموقف المؤيد لإسرائيل، والمستخدم لأسلوب التهدئة مع الفلسطينيين، رغم وعيها بإن إطالة الوقت تصب في طاحونة المشروع الإسرائيلي في المنطقة. وتحت التأثيرات الإسرائيلية/ الصهيونية ذاتها تأتي العاطفة الجياشة في الأحاديث والمواقف الأمريكية تجاه إسرائيل، مع تجاهل كبير للمأساة الفلسطينية: أرضا وشعبا وتاريخا.
حاليا، يتزايد الرهان على فشل المفاوضات الجارية. فالحديث عن «اتفاق سلام» مع الإسرائيليين لا يبدو واردا، لأن الإسرائيليين «فرضوا» نسبيا وجهة نظرهم على الأمريكيين. وقد تجلى الأمر أخيرا، خلافا لما التزمت به الإدارة الأمريكية، شفهيا، للجانب الفلسطيني داخل الغرف المغلقة، حينما كشفت تلك الإدارة عن حقيقة موقفها إزاء بلورة متذاكية لخطة إسرائيلية صرف، أعيد تدويرها بإطار أمريكي، وبطلها وزير الخارجية (جون كيري)، تتبنى بشكل واسع مطالب حكومة الإحتلال الإسرائيلي إرضاء لها بحجة تبديد هواجسها الغاضبة بعد توقيع اتفاق جنيف بشأن البرنامج النووي الإيراني.
لقد تبين أن الإدارة الأمريكية لا تملك قدرة على حل الصراع على أساس قرارات الأمم المتحدة التي تتسم بالوسطية. فقد أكد (كيري) في المؤتمر الصحفي المشترك، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، «تجديد التزام الولايات المتحدة المطلق بأمن اسرائيل (اليهودية)»، الذي يقع على رأس سلم أولويات البيت الأبيض. من جهته، يعيد (نتنياهو) على مسامعنا شروطه التعجيزية رهنا باعتراف الجانب الفلسطيني «بيهودية الدولة والتخلي عن حق العودة»، فضلا عن سياسة الاستعمار/ «الاستيطان» التي تهدد بضم أجزاء من الأراضي المصنفة «ج» لدولة الإحتلال. بل إن خطة (كيري) تجاوزت عديد الخطوط الحمراء. ففي حين كان الحديث الأمريكي دائما عن حدود 1967، تخطى (كيري) هذا الموقف واقترب من الموقف الإسرائيلي في موضوع المطالبة بأغوار وادي الأردن. وقد شجع هذا الموقف «اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون سن القانون» للإسراع بإقرار اقتراح قانون لضم «المستوطنات» في غور الأردن الى إسرائيل، وكذلك ضم الشوارع التي تربطها، وأيضا دون أن يتم تحديد البناء في هذه «المستوطنات». كما يرى «القانون» المقترح أن «منطقة الأغوار هي خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل على حدودها الشرقية»، رغم علم الجميع أن إسرائيل تجني (620) مليون دولار سنوياً من استثمارها في الاغوار، وهو ما يفند ادعاءاتها بالسيطرة على هذه المنطقة لدوافع أمنية، بل هي أساسا دوافع اقتصادية، مع الرغبة والعمل لتفريغها لاحقا من سكانها تحت ذات الذرائع الممجوجة: عدم حصولهم على تراخيص بناء، أو لدواعٍ أمنية وإجراء التدريبات العسكرية، والأهم رفضها وجود أي طرف ثالث لتوفير «الحماية» لإسرائيل على الحدود الشرقية سواء كان أمريكيا أو «أطلسيا»، وكل ذلك يخفي أطماعها لاقتطاع أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة في الأغوار تشكل مساحتها الإجمالية حوالي 28% من مساحة أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة وهي السلة الغذائية لدولة فلسطين المستقبلية. وهذا الموقف «الأمني» التعجيزي لإسرائيل، المدعوم حتى اللحظة أمريكيا، يضرب أي أمل «لتسوية» يقبلها الطرف الفلسطيني. فمبادرة (كيري) تتضمن بقاء الاحتلال، لسنوات طويلة، في غور الأردن، فيما كانت المفاوضات أصلا على أساس تحرير أراضي 1967، ناهيك عن الرفض الإسرائيلي لبدهية أن «التنسيق الأمني» في داخل الضفة الغربية المحتلة يطال الحدود أيضا!!! فما تقبل به (بل وتتغنى به) إسرائيل في رام الله ونابلس والخليل مثلا من «تنسيق أمني»، بات مرفوضا في شريط الحدود!!! إذن، نحن أمام إملاءات إسرائيلية وليس تفاوضا على أساس الحدود الدنيا للحقوق الفلسطينية!!!
من المؤكد أن الحال الإسرائيلي الرافض لأي مشاركة أمريكية جدية في المفاوضات الجارية أدى إلى جعل حكومة الاحتلال تضغط على السلطة الفلسطينية باتجاه القبول بالاملاءات والاشتراطات التي تؤمن جانب الكيان الصهيوني من خلال مسيرة تسوية ترسم معالمها حكومة الاحتلال على أرض الواقع من خلال «الاستيطان» والتهويد. إذن، في رفض إسرائيل تمكين الولايات المتحدة من المشاركة الحرة في المفاوضات مع إصرارها على رفض أي مشاركة (ولو رمزية) لدول أخرى غير الولايات المتحدة يكمن جذر المشكلة التفاوضية، في الماضي والحاضر. أما بشأن جوهر الحل، فهذا ما سنتناوله في المقال القادم.