عندما تجلس على "الماتور" في حافلة نقل عام !!

اخبار البلد - سالم فلاح المحادين

إتجهتُ إلى موقف باصات الكرك – الأغوار الجنوبية بقصد الذهاب إلى عملي , كان الباص على وشك التحرك ولم يكن على متنهِ إلا مقعداً واحداً فارغاً وهو الصندوق الذي بجانب السائق وهو في باصنا هذا ملاصق تماماً للتابلو وهذا الأمر دفعني للجلوس عليه بإتجاهٍ عكسي بحيث أصبحتُ مُواجهاً للركاب , هذه الطريقة الإجبارية للجلوس تجعل منك فيلماً أو شاشة عرض لبقية الركاب , بعضهم يكتفي بنظرة وبعضهم الآخر يمعن النظر في أدق تفاصيلك , ثم أنك تصاب بالدوار لإحساسك بأن الباص يمشي بإتجاه وأنت تمشي بإتجاهٍ آخر .

ما بين المقعد الثنائي والمقعد الفردي الواقعان بعد باب الباص مباشرةً كان هناك مقعد إضافي يجلس فيه طفللٌ يبلغُ من العمر ثمانيةً من الأعوام تقريباً , أغرتني ملامح الفقر في محياه , إبتسمتُ لهُ فأبتسمَ أيضاً , كان يرتدي بنطال رياضةٍ أحمر ومعطف لونهُ أزرق وحذاءً رسمياً !!!!!!!! ملابسهُ متسخةً تماماً وحالهُ لا يسرُ عدواً ولا صديق , أمعنت النظر فيه متسائلاً في داخلي عن وضع أهله المادي , عن حالته النفسية , عن طعامه وعن شرابه , عن أحلامه وطموحاته التي لن تتجاوز في أقصاها – قلاية بندورة – عن وعن وعن ........ , أدهشني منسوب البراءة في وجهه , غرقتُ تماماً في بحر إنسانيته التي تداهمها الأخطار من كل جانب , أوجعني قلبه إذ بدأَ ينبض سريعاً خائفاً مترقباً من غدر الزمان , نقلتُ صورة وجهه إلى مخيلتي وواصلت شطحاتي فيه دون النظر إليه حتى لا يشعر بالإرباكً إن لاحظَ شدة نظراتي .

أخرجَ من جيبهِ منديلاً ورقياً وبدأ يحاولةً يائسةً لإزالة الغبار من على حذائهِ بعدما أستعمل كلتا يديه لإزالة الغبار المتراكم على ملابسه و كأنما يود أن يخبرني أنهُ بخير , وأن إهتمامه بأناقته الشخصية لهي خير دليل على أنه إنسان متخمٌ بالخيرات وأن معدته ليست خاويةً من الطعام منذ عدة أيام وأن حالته السيئة – من حيث العناية الشخصية - ليست دائمة وإنما مؤقتة عائدة لظروفٍ قاهرة , كان يمسح الحذاء بنهمٍ شديد حتى أنه وعندما لا يكفيه المنديل الورقي لتأدية المهمة كان يستخدم يديه في إزالة الغبار من على حذائه !!!!!!! بدا عليه الخجل من نفسه رغم أنني إعتقدت أنه لم يلحظ تركيزي لكن يبدو جيداً أن إعتقادي كانَ خاطئاً .

رحلة قرابة الأربعون دقيقة كانت ملأى بأرق تفاصيل الفقر عندما يمتزج بالبراءة ليبدو المشهد مدهشاً , رحلةٌ كانت أرضاً خصبةً للتأمل في الدنيا وأحوالها والنعم وكيف علينا أن نحافظ عليها بالشكر , ما أنت فيه من خير وتصر على أنه قليل فإن غيرك يراهُ حلماً صعب المنال , القناعة كنزٌ لا يفنى وسعادة الإنسان تكمن فقط بقناعته عما يملك , أماالبحث عن السعادة المطلقة فإنهُ أمرٌ متعبٌ للروح والجسد فلنكف عن الخيال البعيد عن الواقع دون أن نتخلى دوماً عن سعينا للأفضل إن شاء الله .