قوائم تلفزيونية سوداء تضم 'الأذكياء' فقط وحكومات تعرف أنها استقالت من التلفزيون

أخبار البلد -  بسام بدارين - التقى ثلاثتهم على هامش بيت عزاء لأحد السياسيين.. رئيس البرلمان الأردني فيصل الفايز ورئيس اللجنة المالية في البرلمان أيمن المجالي ورئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي.

بعد التحية والمصافحة سأل الفايز الرفاعي عن مصير حكومته، التي يطالب الشعب بإسقاطها: ما هي الأخبار.. أرجو ان تطمئنا؟.. رد الرجل : كل شيء تمام.. الحكومة باقية.

الانطباع الذي يؤسسة الجواب ان الرجل - أي الرفاعي- عاد للتو من القصر الملكي وحصل على تطمينات، خصوصا ان وزارته شكلت للتو.

بعد قليل غادر الرفاعي المكان فهمس الفايز بإذن المجالي بالعبارة التالية: بعد تشكيل حكومتي وصلتني رسالة تطمين مماثلة وفي اليوم التالي علمت باستقالة حكومتي من التلفزيون.

ابتسم الرجلان واستذكرا العديد من القصص المشابهة عن وزراء ورؤساء استقالوا وهم لا يعلمون. أحدهم سمع استقالة حكومته من المذياع، وآخر وهو يتوجه إلى مكتبه.. ثالث أمر بتشكيل حكومته سرا فأعلنت حكومة أخرى تماما.. رابع خرج على شاشة الفضائية الأردنية (بالمناسبة لا زالت بائسة) وكانت وليدة للتو مخاطبا الجماهير وفي اليوم التالي طلب منه تقديم استقالته في مقر أمني.

أطرف النوادر بالسياق رواها لي صديق أصبح وزيرا بارزا في إحدى الحكومات: استيقظ الرجل صباحا كالمعتاد.. شرب فنجان القهوة وطلب من الخادمة إحضار الصحف فقالت بإنكليزيتها الركيكة: سيدي لا يوجد صحف.. صمت الرجل لحظة ثم طلب هاتفه الخليوي الرسمي فقالت: سيدي لا يوجد هاتف.. بعد قليل طلب منها إبلاغ السائق بالاستعداد فقالت: سيدي لا يوجد سائق ولا سيارة.. سأل الرجل أحدهم فقال له (سلامتك وتعيش.. لقد إستقالت حكومتكم). ولكي تكتمل الطرافة سأل الوزير المستقيل من دون علمه الخادمة: طيب وين المدام؟.. قالت: سيدي لا يوجد مدام.

نعود لقصة العزاء لنكتشف عناصر الإثارة الإضافية في رحيل حكومة الرفاعي، فالرجل قضى ساعات الدوام في يومه الأخير في مدينة الزرقاء وخطب بمثقفيها وقادتها المحليين واعدا بالسمن والعسل السياسي، وظهر نشاطه الاجتماعي كخبر رئيسي على شاشة الأردنيين اليتيمة، لكن صباح اليوم التالي طارت الحكومة مع رئيسها.

حتى نائب الرفاعي الزميل الصحافي المغوار أيمن الصفدي وقبل الاستقالة التي لا يعرف عنها شيئا، رغم صلاته بمؤسسة القصر الملكي بساعات فقط كان يلقي علينا خطابا على هامش إحدى الندوات عن خطط الحكومة وبرامجها، وبعد ان حدثنا الرجل عن عصاميته وفقرة في الماضي وكيف حمل الطوب في مدينة الزرقاء اعتذر عن مشاركتنا العشاء الذي يعقب الندوات بالعادة، بسبب انشغاله بقضايا مهمة جدا وببرنامج رسمي فيما غاب الصفدي عن الأضواء والشاشات بعد ساعات فقط حيث سقطت الحكومة.

قبل ذلك بأيام فرح البعض ببلاهة بمناظرة تلفزيونية جمعت الناطق المفوه الأخ الصفدي بالمعارض الإسلامي الشيخ حمزة منصور.. المحزن في هذه المناظرة على الشاشة هو المذيع الشاب الذي جلس بين الشيخ المعارض، الذي يظهر لأول مرة على شاشة بلاده، والوزير الثاني في الحكومة، فقد بدا واضحا ان المذيع يفشل في استعادة المايكروفون من الصفدي حتى عندما حاول رفع يديه بالهواء مرة واحدة على طريقة فيصل القاسم.

المثير ليس الندوة وموضوعها بل ما قاله قبل الحوار الشيخ حمزة منصور القائد المعتدل في تنظيم الأخوان المسلمين فقد عبر الرجل عن فرحته للفرصة التي تتاح له لأول مرة لكي يخاطب الشعب عبر محطته التلفزيونية رغم أنه ـ كما قال - يظهر في جميع الشاشات العربية والإقليمية والدولية.

ولكي لا يشعر المواطن حمزة منصور بالوحدة نطمئنه بان بعض رجال الدولة والنظام في الأردن، بل بعض أفصحهم محرومون تماما من الظهور على شاشتهم للدفاع عن خيارات دولتهم.

وهو ما لمح اليه الدكتور ممدوح العبادي عندما سأله أحد الوزراء مرة عن سبب تعبيره الدائم من الإنزعاج من إدارة التلفزيون فقال: يا رجل هل من المعقول أن أظهر دوما على الجزيرة، وسي إن إن، والعربية وغيرها واسمي موضوع على القوائم السوداء في تلفزيون بلادي وأنا ابن الدولة والنظام؟.

ونطمئن العبادي بدورنا بأن القوائم السوداء تلك متعددة وتشمل طيفا واسعا من الأذكياء والمستقلين والمحترمين والمهنيين والعقلاء والمخلصين.. ثمة قائمة سوداء يفرضها الأمن وأخرى تخص خصوم رئيس الوزراء ومن يكرههم، وثالثة يضعها وزير الإعلام العامل وغيرها لمدير التلفزيون بصرف النظر عن هويته، وأخرى للمسؤول الإعلامي الأول في الديوان الملكي، وثمة قائمة سوداء دائمة مستوطنة في عقل معد البرامج او حتى من يذيعها.

لذلك يقدم التلفزيون الأردني وجبات إعلامية بائسة وباهتة من طراز إستكش تلفزيوني، يتضمن حوارا سخيفا بين مجموعة مخاتير يفترض أنهم يمثلون (ضيع سورية).. هذا الشريط أذيع في لحظة الذروة التي شغلت العالم عندما دخل الشعب المصري في هوس الفرح متخلصا من سي مبارك.

كثر من الفهمانين والمثقفين لا يظهرون على شاشة تلفزيون بلادهم.. لذلك وعندما قرر الدكتور مصطفى حمارنة، وهو رئيس لمجلس إدارة التلفزيون، إظهار مذيعين على الشاشة يتحدثون بلغة اهل عمان أو تأمين اتصال بممثل لـ'حزب الله' للتعليق على شتائم تطال حزبه، قال له رئيس الوزراء وقتها عبارة خالدة وبلهجة تلقينية (يا مصطفى.. تذكر هذا تلفزيون الأردن يا أبو صطيف).

للعلم فقط أبو صطيف طار لاحقا من التلفزيون وترشح للانتخابات العامة وخسر مرتين في انتخابات وصفت الأولى رسميا بأنها الأسوأ، يعني مزورة، ويمكنني وصف الثانية أيضا بأنها مزورة جدا وللغاية.

.. لذلك نرى نفس الوجوه المنافقة دائما تطل على الشاشة لكي تجتر وتكرر نفسها.

وأقوى دليل على بؤس الإدارة هو ما حصل فجر الثورة المصرية الرائعة، ففي الوقت الذي انشغلت فيه الكرة الأرضية بانطلاق الثورة المفاجئ قررت ان أشاهد ما تبثه الفضائية الأردنية منتصف الليل، فرأيت برنامجا اسمه (يسعد صباحك) يبث في ساعات المساء المتأخر ويتحدث عن مسألة محددة هي الخدمات الصحية في البلاد.

أخيرا أستسمح الأخوة القراء لتذكيرهم بان صديقنا ياسر أبو هلاله نجم الجزيرة في عمان فعلها مرة أخرى لكن في تونس.. بدأ التقرير باجتماع للشيوعيين التوانسة وهم يهتفون (الشعب يريد تحرير فلسطين) ثم بلقاءات سجلت مع شخصين في زنانين محروقة من أيام بن علي، أما المشهد الختامي فكان على النحو التالي: أغلق أبو هلالة باب الزنزانة على نفسه ثم انسل منها في حركة استعراضية امام الكاميرا.. مجرد سؤال يحيرني : لماذا يفعل الزملاء ذلك؟

' مدير مكتب 'القدس العربي' في عمان