قصة في مطار القاهرة

كتب زميلنا جلال الخوالدة مقالا مهماً، عنوانه.. «أردني أردني أم أردني فلسطيني..بابا»..والمقال جريء بصراحة لأنه يتطرق إلى ظاهرة مهمة نلمسها في العالم العربي وفي كل مكان.
يروي الخوالدة الذي خبرته سابقاً وعن قرب في دبي كيف استعمل التاكسي في مغتربه وحين سأله السائق الهندي من أي بلد هو، قال له انه اردني، فعاد الهندي وسأله: «أردني أردني أم أردني فلسطيني..بابا»؟!.
زميلنا يروي كيف ان العرب وحتى الآسيويين يعرفون هذه القصة، قصة الاصول والمنابت، ولم يعرفوها لولا قيام كل فرد فينا بالإصرار على تعريف نفسه أمام هؤلاء بطريقة معينة، لا تخلو من ملاحق توضيحية حول الأصل والفصل.
الخوالدة سأل الهندي عن سر سؤاله فقال له إن الراكبين من الأردنيين معه، يصرون سريعا على توضيح هويتهم، بعضهم يقول له إنه أردني أردني، وبعضهم يقول له انه أردني فلسطيني، حتى فهم القصة.
معنى الكلام ان الواحد منا خارج البلد يقول للعربي او لغيره إنه أردني، ثم يضيف لغايات التوضيح، تارة انه اردني اردني، او اردني فلسطيني، ويسأل الخوالدة عن جدوى هذا الاسلوب، وبماذا أفاد الأردن او حتى فلسطين؟!
هذه المرارة تثير التساؤلات، فلدينا شعوب عربية منوعة في منابتها واصولها، والعراقي أوالسوري، يقول لك انه عراقي أو سوري، وقد تكتشف لاحقا بشكل طبيعي جدا، انه كردي مثلا أو أرمني أو من أي قومية أو دين أو عرق، لكنك ندر ما تسمع السوري مثلا ُيعرفك على نفسه ويستدرك بتحديد مدى درجة القربى بينه وبين سورية.
واقع الحال يقول ان كل العرب باتوا يعرفون هذه القصة عنا، وهي مؤسفة، رغم أن الإنسان لا يخجل من منبته أو أصله، أو قوميته أو عرقه، إذ كلنا أردنيون، وأردنية المرء هنا، وجدان وإحساس ورابط، قبل جواز السفر، ودفع الضريبة أو الحصول على وظيفة عامة.
حدثت قصة شبيهة مع أحد نقباء الصحفيين الأردنيين، إذ سافر قبل اكثر من خمسة عشر عاما الى مصر، وفي مطار القاهرة سأله ضابط الجوازات آنذاك:هل انت أردني أردني، أم أردني فلسطيني؟ مكررا ذات التعبير، في معرض غمزه، من هوية الرجل، واستكشافه لجذوره باعتبار ان هناك اردنياً اصلياً، وهناك من هو مزور بنظره؟!.

رد نقيب الصحفيين هازئا بالسؤال، متظاهراً بعدم فهم معناه، قائلا للضابط : لم أفهم السؤال. فقال له الضابط لحظتها بلهجته العامية:(يعني انت فردة يمين أم فردة شمال)..والكلام الجارح الذي استعمله للرد مستعملا فردتي الحذاء لإهانتنا كلنا، كلام اثار عاصفة يومها من المشاكل وادى كلامه الى تدخل مسؤولين سياسيين، وحدوث تداعيات كثيرة عقوبة للضابط السفيه.
كل الدول التي تفوقت مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، مع حفظ الفروقات من حيث المقارنة، اذابت مواطنيها في بوتقة واحدة، وأخذت احسن مافيهم، من علم وعبقرية ومال، وولاء لتلك الدول، وهذا لم يلغ أعراق الناس ولا أديانهم ولا أصولهم، اذ بقي لكل مواطن بصمته الاجتماعية التي لا تتعارض مع عنوانه العام، وما المشكلة في ذلك؟!.
في أمريكا وحدها تنوعات لا تعد ولا تحصى، كلهم امريكيون، خيرهم لبلدهم، وخير بلدهم لهم، وشرهم عليهم فردا فردا، وفقا لفعلة الفرد، ولا يمنع هذا أن يأتي مرشح ويبحث عن الأمريكيين المسلمين لمخاطبتهم، أو الأمريكيين اللاتينيين للحصول على دعمهم، فلا تناقض الفسيفساء الجميلة، بتنوعاتها، إجمالي اللوحة المبهرة والأخاذة والمعبرة، والتنوع بحد ذاته أمر إلهي نراه حتى في بيوتنا..
المشكلة اليوم أننا أفهمنا كل العرب -وصولا الى السائق الهندي- أننا شعبان في شعب واحد، وشعبان تحت هوية واحدة، واغلب هؤلاء يفهمون ان هذا تعبير عن انقسام بالطول والعرض.
حتى الاشقاء السوريين الذين قدموا الى الاردن، خلال العامين الاخيرين، سرعان مافهموا القصة، جرّاء تعبيراتنا القوية او الخافتة عن هوياتنا الفرعية، او تراتبية هوياتنا كما يفهمها البعض، وباتوا يلعبون عليها بذكاء، اذا يقال لبعضنا انتم شيوخ البلاد ونحن اولادكم فاحتضنوننا، ويقولون لنفر آخر انتم اصلا لاجئون مثلنا فارحمونا وشغلونا، ولاتتكبروا علينا.
لعل كل واحد فينا يصون بلده، ووحده شعبه، بدلا من هذه العنتريات الفارغة، التي تسيئ لنا جميعا، والذي ينكر بقية مكونات البلد، أو يرى مكونا فوق آخر، ظالم بحق نفسه قبل غيره، فهذا بلد تأسس على الجميع، وبشراكة الجميع، وكل واحد له مدماكه في هذا البناء، فوق ان الهوية السياسية وجدانية قبل ان تكون شهادة ميلاد، ورقما في الأحوال المدنية.
الحق علينا جميعا، قبل الهندي وغيره من البشر!.