الواقعية السياسية الاردنية لعام

شعرت بالحرج و انا اقرأ رسالة الخارجية الاسترالية الموجهة لوزارة خارجيتنا تستنكر فيها طريقة " العنف في ذبح الخراف الاسترالية" وتنقل غضب منظمات حقوق الحيوان في استراليا " لاسلوب معاملة خرافها بحشرها في الصناديق الخلفية للسيارات".كما شددت الرسالة على ضرورة تقديم الماء النظيف،والعلف المناسب لتلك الحيوانات ومعاملتها معاملة إنسانية.

*** خطاب استفزني لقرآءة اوضاعنا الانسانية.وبالرجوع الى بطون الكتب استزادةً في المعرفة و طلباً لاحدث التعاريف للدولة الحديثة، اجمعت جميعها رغم تباين مدارسها،ان الدولة ـ أي دولة ـ يجب ان تقوم على الحرية والمساواة والعدل واحترام حقوق الانسان واحترام حقوق الحيوان. ولتجسيد هذه الاقانيم يجب فصل السلطات الثلاث حتى لا تتغول احداها على الاخرى. التوليفة الآنفة الذكر لا تستقيم الا اذا تبنت الدولة خطاً تنموياً صاعداً لتحقيق حياة انسانية كريمة،بانشاء المشاريع لتحريك عجلة الانتاج،و تشغيل الايدي العاطلة عن العمل لافرادها لا ذبحهم بغلاء الاسعار والتضييق عليهم برفع الضرائب، .

*** الامن الغذائي كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة هو"المرحلة الاولى للعمران". فعند عدم توفر الغذاء سيضطر الافراد للوصول اليه بطرق غير مشروعة.و للاسف فان معظم الدول العربية،ومنها الاردن تسير بالاتجاه المعاكس لهذا القانون الطبيعي ـ تأمين الامن الغذائي ـ اذ قامت برفع الاسعار عدة مرات بطريقة جائرة،ناهيك عن نسبة البطالة المرتفعة،والبطالة المقنعة التي حشرت شريحة واسعة من الناس في دائرة الفقر بانواعه الخبيثة: المطلق والمدقع والنسبي،و حرمان الناس من الضروريات الاساسية،ما ادى ببعضهم الى سلوك درب الشيطان المفضي للمحرمات بشتى صنوفها". هذا الوضع الاقتصادي العربي المتدهور بات يؤرق "اسرائيل" ايضاّ، ويطرد النوم من عيون جنرالاتها،لانه يدفع الشباب الى اعتناق الفكر الجهادي للمنظمات المتطرفة التي باتت تنتشر على اكثر من جبهة في حدود التماس مع اسرائيل"،كما تؤكد التقارير الاستخبارية.

*** كذلك يجب عدم اغفال تلك الشريحة المطحونة الواسعة،التي بدأت تتمرد على المجتمع،و تتجاوز القانون في وضح النهار.تقود المشاجرات و تقطع الطرق وتفتح النار في الشوارع.تقابلها شريحة مرفهة ضيقة، شغلها الشاغل النهب المنظم والاستئثار بالسطة والنفوذ والمال والمراكز المتقدمة.تمايز طبقي فاضح، وان كان التعبير عنه ما زال خافتاً الا اننا نلمسه في الجلسات الخاصة،والتعليقات في المواقع الالكترونية والمداخلات على الفضائيات المحلية.فيما الحكومات المتعاقبة كافة ظلت ساكتة تنظر الى هذا الموضوع الخطر بعين باردة .

*** نظرة بانورامية للمشهد حولنا،نرى ان الخراب يضرب في كل مكان لا يستثني شيئاً.الجامعات انتقلت من تلقينية الى ساحات للقتال،وبؤر للتعاطي،و لا ادل على ذلك من ان تلزم الجامعة الاردنية ـ الام ـ طلابها بتوقيع تعهد خطي بعدم تعاطي المخدرات داخل حرمها،والبلقاء تفصل حملة السلاح،ولم يبق الا الاعلان عن حظر "جماعة الاحزمة الناسفة".التوجيهي اصبح معركة وطنية تستنفر فيه القوى الامنية لضبط ايقاعه.اخر ابداعات الاحتيال استحداث غرف عمليات للغش،باستعمال اخر التقنيات لتمرير الاجوبة للطلبة الكسالى في قاعات الامتحان.ومن باب خض الماء نكرر القول :غذاؤنا فاسد.تعليمنا الابتدائي متخلف.صحفنا الورقية رهينة للحكومة و اخرى لرجال الاعمال.برلماننا يغلب عليه الامية السياسية والقانونية فقانون الصوت الواحد فرّخ لنا نواباً ضعفاء،وابعد الاقوياء.نخبنا الفكرية والثقافية جُلها استسلامية.احراشنا لم يبق منها الا اقل من 1% وهي في طريقها للزوال.مياهنا السطحية ملوثة،مستشفياتنا مفلسة،كان اخرها مستشفى الحسين للسرطان الذي اعلن اضطراره للدين،وقبله مستشفى الجامعة والملك عبدالله، ومن ثم طغيان الهوية الفرعية على الوطنية الجامعة..!.

*** اما كبيرة الكبائر،قضايا الفساد المالي و الاداري و القانوني الذي ضرب قطاعات الاتصالات،المواصلات،الكهرباء،الفوسفات،البوتاس،الباص السريع،قائمة لا تنتهي تمتد من اراضي الرمثا المنهوبة حتى شواطئ العقبة المسلوبة.فساد غاية في الخبث،و ظواهر بالغة التعقيد بات من الضروري دراسة ابعادها وامتداداتها و تشعباتها وملاحقة مساراتها للسيطرة عليها.فبالرغم من ادعاءات الحكومات المتعاقبة السعي للقضاء على هذه الآفات، الا اننا فوجئنا قبل ايام بتحويل "15" قضية فساد جديدة بمئات الملايين الدنانير للقضاء.ناهيك عن تحويل "80" قضية من العيار الثقيل في العشرين شهرا الماضية،بينما المخفي افظع.

*** صورة قاتمة مشوشة،وواقع خَرِبْ،في زمن تكاثر فيه السياسيون وغابت فيه السياسة،و تنافخ فيه الاصلاحيون وفشل فيه الاصلاح،لكن الحقيقة التي لا تقبل النقاش هي اننا تجاوزنا مرحلة التمزق العضلي ودخلنا منطقة كسر العظم. في هذه الحالة لم يعد ينفع الخطاب التزويقي الرسمي الممكيج بالوان الكذب والتعتيم والتعميم،لانه لا احد بمقدوره حجب ما يجري على ارض الواقع عن الناس.واقع بدأ بالتعفن والتآكل بما يحمله من تهديد للسلم الاهلي متزامناً مع تراجع الامن الفردي، خاصة مع ظهور عصابات السرقة والمخدرات والسطو والدعارة.عصابات تذكرنا بـ "فتوات" رواية اولاد حارتنا للمبدع نجيب محفوظ ،اولئك الذين كانوا يتحكمون في الشارع المصري آنذاك. بلطجية ترهبهم الشرطة ويخافهم الناس لدرجة دفع الخاوات المنتظمة لهم لاتقاء شرهم.

*** ضربات موجعة تنهال على رؤوسنا صباح مساء،ستفقدنا حتماً توازننا،وقد تطيح بنا ان لم نتداركها خاصة بعد الانهيار القيمي والسقوط الاخلاقي.فصارت ثقافة الولاء والانتماء والوحدة الوطنية والدعوة للاصلاح والتفاني في حب الوطن "تُهماً" يجب تبريرها،في حين ان السرقة والغش والنصب والرشوة والواسطة "فهلوة وشطارة". دليلنا ان معركة التوجيهي انتقلت من التنافس على الابداع والتفوق الى التسابق على الغش والاحتيال، ما يشي اننا امام مستقبل مرعب،واجيال تدوس القيم لتقطف النجاح بالسرسرة على حساب الاذكياء المجتهدين،الاسوأ منهم اولياء امورهم الذين يشجعونهم على الافعال المشينة ويعززون قيم الانحطاط.

*** هنا يبزغ السؤال المفزع: كيف يكون الخؤون قاضياً،ضابطاً،محامياً،تاجراً،موظفاً،مهندساً،طبيباً،طباخاً.. في المستقبل،وهو الذي وصل الى رتبته بالغش؟!.ونتساءل بحزن الم يكن الاجدر بالطالب الذي تم استخراج "سماعة الغش" من اذنه ان يزرع المعلومات على مدار السنة بدل هذه الفضيحة المدوية.فالاستقامة اقرب الطرق لله،ومادام الله معك فالنجاح حليفك شرط ان تعمل بجد و اخلاص.

*** الحكمة تقول :"افتح مدرسة تُغلق سجناً" وللامانة عمل المخلصون بهذه الحكمة، وفتحوا الآف المدارس وعشرات الجامعات لكن الامر ازداد سوءاً،اذ كان حالنا ايام الكتاتيب افضل حالاً.ثم عمل المجتهدون بالحكمة الثانية "اشعل مصباحاً تطرد لصاً وتستغني عن شرطي". المفارقة ان الاردن بعد ان اصبح بقعة ضوء،ازدادت كوادر الشرطة عشرات الاضعاف،وعادت قوات الدرك للخدمة،لكن الجريمة تفاقمت بشكل لافت. اللافت اكثر ان العقلية العربية درجت على التخلص من واجباتها وتعليق اخطاءها وخطاياها على مشجب "المؤامرة الخارجية والداخلية" احياناً، و"الكونية" احياناً اخرى".في حالتنا الاردنية لا الامريكان ولا الروس،ولا اليهود ولا العرب خلف مؤامرة ما يحدث عندنا من خراب وتخريب.... فمن المسؤول اذن ؟!.

*** الحق اننا ننام على خوف من الحاضر،وننهض على كوابيس من مستقبل غامض ،خاصة بعد رفض تشكيل حكومة انقاذ وطني،و فشل الحكومة البرلمانية في مهدها. لذلك وجب في ظل هذا الاستعصاء الخانق اجتراح حل جذري لمجموعة المعضلات المتراكمة،وتفكيك الالغام المزوعة على امتداد الجغرافية الاردنية. والخروج من المأزق يستدعي التنادي لمؤتمر وطني يضم كل القوى و الاطياف،والنقابات والشخصيات المعارضة،و الاحزاب الفاعلة في المجتمع لوقف معاول الدمار والتدمير اولاً،ثم العمل الفوري على ترسيخ الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة الحقة والقضاء العادل والتعليم العصري.مع الانتباه ان كل ما سبق لن ياتي أُوكُله الا بمجلس نواب شعبي ومؤهل لقيادة المرحلة المقبلة ،مدعوم باعلام وطني ناضج شجاع غير مرعوب او مرهون،فيما يبقى الاهم البحث عن افضل السبل لبناء انسان جديد مسلح بالقيم والمُثل لحمل الامانة الوطنية،و اشعال ثورة بيضاء عقلانية اخلاقية تفتح دروباً آمنة و امينة للمستقبل .

مدونة الكاتب الصحفي بسام الياسين