إسقاط تركيا.. أم إسقاط أردوغان؟


 

لن تغيب تركيا عن «رادارات» العالم السياسية والدبلوماسية والاعلامية، رغم أعياد السنة الجديدة التي يبرع فيها المُنجّمون، عبر تحويل انظار الجمهور نحو توقعاتهم التي تخيب في معظمها ولا يلبث الناس أن ينسوها، ولا يستدعونها إلاّ إذا «زبطت» مع أحدهم في حال إغتيال أو إنتخاب أو إطاحة أو زواج أو طلاق.
هل قلنا إطاحة؟
نعم.. إذ يبدو ان الاتراك باتوا يتهيأون لمرحلة ما بعد اردوغان وليس بالضرورة مرحلة ما بعد الحزب (العدالة والتنمية) رغم ان احتمالات انفجار هذا الحزب من الداخل ما تزال واردة، إن في شكل استقالة برلمانية جماعية (أو ذات وزن) من صفوف الحزب أو انشقاق افقي وعامودي يجعل من الثنائي اردوغان وغل أقلية رغم ان الاخير (اردوغان) بدا اكثر عقلانية واتزاناً وحكمة في قراءته لطبيعة وحجم ازمة الفساد العاصفة التي هبت على حكومة اردوغان وربما أسهمت - وفي القريب الوشيك - في إقتلاعه وانهاء مستقبله السياسي، على النحو الذي حدث مع استاذه نجم الدين اربكان ولكن هذه المرة ليس على يد الجنرالات الذين نظموا عليه انقلاباً «ناعماً» في شباط 1997، بل إن المؤسسة العسكرية التي «نجح» اردوغان في تقليم اظافرها، أعلنت انها لن تتدخل في الازمة الراهنة وهي ستكتفي بـ(المراقبة).
حزب الرفاه تضاءل وتقلّص حدود الانقراض، عندما اطيحت حكومة اربكان وخصوصاً عندما قفز الثنائي غل - اردوغان من سفينة «المُعلّم» الجانحة وأسسا الحزب (العدالة والتنمية) الذي سيحكم تركيا لمدة عقد كامل ويبرز فيه اردوغان كرجل واحد ووحيد، ويمضي قدماً في الترويج لنموذجه الاسلامي المعتدل (اقرأ العثماني الجديد المُتمسّح بالاسلام) على نحو ألغى فيه كل «إخوانه»، وغدا غير قابل للنقد او المراجعة وراح يتحدث كسلطان عثماني «جديد» بتفويض اميركي مفتوح قبل ان يكتشف «الجميع» أن الرجل قد فقد بوصلته وانه لا يجيد قيادة السفينة التركية بالحد الادنى من الكياسة او الصبر، بل يُصرّ على ارسالها-بعناد وغطرسة-نحو جبال الجليد التي تمتلئ بها بحار المنطقة وصحاريها.. ما بالك مجتمعاتها الفسيفسائية ذات الاديان والاعراق والثقافات المختلفة.
هذا لا يعني ان الاميركيين هم الذين رفعوا «الكارت» الاحمر في وجه اردوغان الذي استحضر نظرية المؤامرة وراح يضرب في غضب، شمالا وجنوبا ويطلق موجات غير مسبوقة من الشتائم والسباب والتلويح للمؤسسة القضائية بما ينتظرها من «عقاب» اذا ما واصلت الانحياز للمجموعات الاجرامية التي تريد-كما قال-إسقاط تركيا..
اين من هنا؟
الرجل الذي جاء من رئاسة ناجحة لبلدية اسطنبول، سقطت هالته او سار على درب السقوط منذ ان بدأت احلامه (إقرأ أوهامه) تصطدم بحقائق الواقع ومعادلاته، التي ظن اردوغان انها مواتية لاشرعة سفينته، وبخاصة بعد ان قلّص دور الجنرالات في المشهد التركي و»طهّر» المؤسسة القضائية، او لنقل نجح في فك ارتباطها العضوي والمتين مع المؤسسة العسكرية، بما هما الزاعمتان على مدى عقود طويلة، بأنهما «الحارستان» لإرث اتاتورك والدولة العلمانية التي انشأها، بل إن الرجل استعان بالقضاء لضرب العسكر لكنه يزعم الآن ان «... بعض القضاة للأسف، يعملون بالتنسيق مع بعض المجموعات الاجرامية وبالتعاون مع بعض وسائل الاعلام للتشكيك في اشخاص (أبرياء)، بكشف وثائق سرية»، ثم يمضي في هجوم لاذع على «الحركات ووسائل الاعلام ودوائر رجال الاعمال التي نسّقت-من تركيا-هذه المؤامرة الحقودة» وعاود اتهام «العصابة داخل الدولة» بالوقوف وراء هذا التحقيق (يقصد جماعة فتح الله غولين).
ما نقرأه وما نسمعه من اردوغان وحده (الا تلاحظون صمت الآخرين في حزبه وكأنهم مجرد ارقام؟) ليس سوى ردود افعال واتهامات ووعظ وخطب، لكنها لا تنم عن قبول بقواعد الديمقراطية او تحترم استقلال القضاء وحياديته، وإلاّ كيف يمكن توزيع الاتهامات والحديث عن تواطؤ بعض القضاء في الوقت، الذي يُنكّل بالمؤسسة القضائية، يُقيل هذا ويُبعد ذلك فضلاً عن بطشه بالشرطة وتشتيت قادتها، في الوقت ذاته الذي يسعى فيه الى اوروبا ويطلب عضويتها.؟
لم يقل الرجل انه يحترم القضاء وانه يمحضه ثقته وأنه لن يصرف النظر عن فاسد او متواطئ، سواء كان وزيراً ام ابنا لمسؤول او حتى ابنه، بل اصدر احكاماً مسبقة واستشاط غضباً ولم ير ان احداً مستهدفاً «سواه» وها هو يطور الهجوم مختزلاً تركيا-وطناً وشعباً-في «شخصه» عبر الزعم بأنهم يريدون اسقاط تركيا وليس اسقاطه فحسب.
هل إنهار «النموذج» أم تصدّع ولم يعد مطلوباً او مرغوباً او قابلاً للتسويق؟
... الايام ستروي.