إلى المخلدين في وطني : لقد طفح الكيل!


منذ سني نشأة الدولة والسنبلات يابسات ، ومنذ فجر تاريخها وكروش كبار ليس أطباقها الرئيسة إلا ثروات الوطن و ليس أطباق حلواها إلا قوت الضعفاء. وثمة فقر وقهر رغم قرب ووفرة موارد الوطن . نشكو الحاجة في وطن هو الأكرم على الأرض .أضحى الوطن كبؤرة للعفاريت التي في أيديها تتبخّر مقدرات عالم بأكمله، ثم يعودوا بالدولة لتقتات على حساب حليب الصبية الصغار ودواء الشيوخ الكبار ولقمة عيش المواطن الذي غدا بفعل الساسة كشجرة تفاح نخرها السوس.

وطني ماء يتبخّر.وأنا الذي صحوت على كذب الساسة وترعرت على كذبهم وسأهرم على كذبهم. لم أرى في وطني يوما سعيدا. حتى حقوقي فيه غدت مهدورة ليس إلا لأني لا أحسن الرشوة أو ليس من ورائي صفقه.

فقد صحوت على نعمة الأمن والأمان، وها انذا أعيش على هذا الوهم، رغم أن الجريمة باتت في وطني - - وعلى عين وأذن الدولة - شبه منظمة. تخلت الدولة عن واجباتها تجاهي وأعلنت المسافة التي بيني وبينها منطقة منكوبة. لم أذق يوما طعم الأمان إلا في شعارات زائفة أوهمني بها الساسة وصدقتها وأقراني الضعفاء، وأنا من يدرك أن أمن العيش هو أول حلقة في منظومة الأمن ؟ ! لا تصدقوني فكذّاب أنا، ولكن الحق جل وعلا لا يكذب بدليل قوله تعالى:(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف).صدق الله العظيم.

علموني في وطني أن التصفيق للسياسي حينما يكذب هو وقار . وأن من دواعي قلة الأدب أن أفكـــر، وأن ترتيب دفاتري الضائعة في زحمة الزيف هو منتهى الاستهتار ، وأن ممحاتي دوما يجب أن تبقى رطبه لأمح بها هواجسي قبل أن تظهر . وأن الحديث في هم الوطن كفر ليس له حد ومستحيل الغفران، وأن تصديق ما أرى هو محض هذيان.

علموني كيف عليّ أن أحيا على العتمة، وأن إشعال النور هو محض تبذير . علموني جزاهم الله عني خيرا كيف أخبئ ملابس الصيف السابع بعد الميلاد للشتاء الأربعين بعد الميلاد، وكادوا ن يعلموني أن من السنة صيفا وشتاءا أن استر ما هو تحت الصرة بشبر وفوق الركبة بشبرين فهذا كاف شرعا وأنا مخلوق ضد الجليد وضد النار. وصفوا لي كيف علي أن أتعود على ركوب سيارتي يوما وكيف لها أن تركبني في اليوم التالي لأن الوقود زئبق أحمر وعلي أن أصون النعم. علموني أن الحضارة تستدعي أن أختزل رغيف العيش عن أولادي. علموني كيف أناكف أطفالي على مصروفهم المدرسي وأن أحاول إقناعهم أن الدرهم الصباحي هو بذخ وإسراف. أقنعوني أن الضرائب الطائلة هي زكاة وصدقة وأن أجرها مضمون ميمون.

وهم بأمانة - بعد أن أمروني بذبح بقرتي ودجاجتي بل وحتى خنزير جاري الكتابي الذي عوّلنا عليه - دللوني عندما قالوا أن اللحم مباح مرة في العام، ويستوي لديهم أن اشتريه أو أن أراه عند اللحام. هم لا يأخذوني على حين غرة فكلما أرادوا رفع الأسعار أفشوا إشاعة واستأذنوا صمتي الذي علموني ومن بعدها أتوا بالفاجعة. أليس من واجبي أن أحترم ما علموني وهم الذين أحاطوا علما بما في جوف وطني من ماء وأوحوا إلي أن لا تغتسل أكثر من مرة كل نصف عام!. وهم باختصار أصحاب فضل في معرفتي لأن كل مكيدة تحاك للوطن ما هي إلا قضاء وقدر.!!!

وها انذا على ما علموني. فالنحاس و الفوسفات والبوتاس والحجر والزجاج والصخر الزيتي والرخام والجرانيت واليورانيوم والسيلكا والغاز الطبيعي والطاقة الحرارية الجوفية وحتى النفط ....فكل ذلك محض افتراء على وطني وليس لي من سبيل سوى أن أنكر الشمس وأصدقهم، وعلي أن أبحث عن قارئ وبخور ليعيدني القارئ ببخوره إلى جادة الصواب. فأنا ما بين الفينة والأخرى بحاجة إلى مشعوذ ليريني أن ما رأيت محض رماد وأن وطني فقير فقير، وهو وطن دوما يبتسم للمارة ويبحث عن اسمه في قوائم الموتى!!!!

والمخلدون في وطني، هم أبناء الذوات وهم أهل الحرية بلا حدود ، تكاليف معيشة أحدهم تعادل تكاليف معيشة ساكنو وطن من أمثالي . جور أن يقتصدوا في النور . وحيف أن لا يسرفوا في الوقود. حرام أن يعيدوا غسل ملابسهم . أبنائهم من نور وأبنائي من نار، ليسرفوا في الكماليات ولأقتصد أنا في أبجديات العيش. فظلم أن أطلب المساواة معهم . وخبث أن أتكلم عن عيوبهم . فالوطن وطنهم وأنا وأمثالي نعرف كيف نجيد القنانة. ولا بأس من سادة وعبيد وهذه سنة الحياة . ولا ضير إن يكون الوطن جسد متورّم الرأس في مكاتبهم وقصورهم في عمان ضامر الأطراف في المحافظات.
المخلدون في وطني حرّفوا دفتر العائلة ولم يبقى من الوطن إلا اسمه. وكل يوم تتساءل الطواويس : كيف السبيل إلى زيادة نكد العيش في وطني؟! وكلما طار خفاش في وطني اسودّت ما بقيت من بيض الصفحات. وكلما علت موجة القهر راجعت موجز أحلامي ولا أرى إلا السراب. وفي وطني كل تجارة تبور إلا تجارة الدولة وتجارة الدين.

وللمخلدين في وطني، بقيت ثمة تساؤلات تحيّرني ولا أجد لها أجوبة في التطبيق وما أجوبتها إلا على الورق أوفي الخطب الزائفة وهي: أليس الإسلام هو دين الدولة في الدستور ؟!! أليس الإسلام دين رحمة ومودة وصدق وأمانة واستقامة؟! ألا تعتبر المساواة في الحقوق كما هي الواجبات دونما أدنى تمييز على أساس من اللغة أو الدين أو الجنس أو العرق من الضمانات الدستورية للحقوق والحريات الفردية؟! أليست العدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين من دعامات المجتمع المتراحم ودولة القانون القوية البنيان؟! أليس الناس سواسية في الكرامة الإنسانية؟! ألا يعتبر العدل والشورى والصدق والشفافية والنزاهة دعامات للحكم الديمقراطي الحق ؟! ألم يضمن الدستور الأردني حريتي الرأي والتفكير ؟! ألا يعتبر التسويف والزيف واقتناص الفرص والنأي نحو الصالح الخاص على حساب المجموع والوطن مدعاة لحساب الله تعالى؟! ألا يخاف المخلدون في وطني سؤال الملكين في الثكالى والشيوخ الركّع والصغار الرضّع؟!

أيها المخلدون : اختم ببعض ما كتب الإمام علي عليه السلام في كتابه إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) لمّا ولاّه مصر ومما جاء فيه:
" وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم،(فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق) ، يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنّك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ! وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم".

ولعله من مفارقات هذا العصر، أنه ولمّا أدرك الأمين العام السابق للأمم المتحـدة كوفي عنان قول الإمـــام علي :" يا مالك إن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، عندها قال عنان : يجب أن تعلَّق هذه العبارة على كلّ المنظمات الدولية، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية ، واقترح (عنان) أن تكون هناك مداولة قانونية حول( كتاب الإمام علي إلى مالك الأشتر) وقد قامت اللجنة القانونية في الأمم المتحدة بطرح: هل يرشح هذا للتصويت؟ وقد مرّت عليه مداولات ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول ليكون ضمن مصادر التشريع الدولي.

وأخيرا، فقد كتبت هذه السطور بلسان حال المواطن، وهي تستند إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى حقه الدستوري في مخاطبة السلطات بما ينوبه من أمور شخصية أو فيما له من صلة بالشأن العام .والله ولي التوفيق.