فاصل رومانسي...المُلهمــة!



إلتقاها صدفةً في احدى الحفلات.كانت طويلة كالرمح.حزينة كقصيدة عشق لم تكتمل.طيبة مثل شجرة وارفة الظلال،غزيرة العطاء تتدلى عناقيدها حتى تلامس اصابعك.اثاره لمعة الحزن المشع من عينيها،و الارهاق المتراكم على اجفانها الذي لم يفلح المكياج في اخفائه. تقدم منها بخطىً واثقة. مدّ يده مصافحاً وقال من دون مقدمات،هل يمكنني التعرف عليكِ ؟. إبتسمت ابتسامة خجولة،وقد اكتسا وجهها بالحمرة،وتوردت وجنتيها وقالت: يبدو انك واثق من نفسك اكثر من اللازم.اجاب دون تكلف:الموضوع لا يحتمل هذا التفسير،كما انني لم اتجاوز حدود اللياقة المتعارف عليها.

*** ردت عليه بخبث انثوي مدروس: ان الحفل يضم عشرات الصبايا الجميلات،و انا لست اجملهن كما ترى. اجاب بطريقة مسرحية : هكذا كلُ النساء... لابد ان يضعن منافسات لهن..الجمال يا عزيزتي نسبي ولكل واحد ذائقته الجمالية،ناهيك ان الجمال يكمن في الجوهر.المظاهر غالباً ما تكون خادعة حتى انها تُضلل الاذكياء و اصحاب الفراسة الحادة. ـ المرحومة ـ "مارلين مونرو" اجمل الجميلات، انتحرت لإحساسها بالخواء. المأزومة "بريجيت باردو" دوخت الرجال ولم تكن اكثر من دمية،وحين لم تنفع معها عمليات الشد والنفخ في اصلاح ما افسده الدهر، انسحبت من دائرتها الانسانية واستبدلتها بمجتمع من الكلاب.

*** ابتسمت بثقة،فيما بدأ توترها بالهبوط.رفعت خصلة شعرها بدلال وقالت: هات من الآخر،ماذا تريد مني؟!. قال باختصار شديد: لا شيء سوى التعرف عليكِ، فالعيون نوافذ القلب،و احساسي الداخلي يحدثني انني اعرفك منذ قرون. قهقهت بطريقة لافتة وقالت :يبدو انك من المؤمنين بتناسخ الارواح،واراهن انك ستقول اننا التقينا في عالم آخر.

***ضحك هو الاخر ضحكة مكتومة ورد عليها: لا يا عزيزتي،الاصح ان " الارواح جنود مجندة،فما تعارف منها ائتلف،وما تناكر منها اختلف".قالت باهتمام بالغ يبدو لي انك واسع الاطلاع.رد على الفور وعلى وجهه ابتسامة ودودة :انا مؤمن بان المرء كلما ازداد معرفة ازداد معرفة بانه كم كان جاهلا من قبل، اما المعرفة ليس لها حدود.اصدقك القول ان اهل المعرفة هم اكثر الناس تواضعاً ونُبلاً وزهداً.وعلى عكس السائد فان الثقافة يا عزيزتي ليست فعل استعراض،والمعرفة ليست قرنفلة للزينة يشكلها العارف في عروة جاكيته للاعلان عن نفسه على طريق ـ شوفوني ياناس ـ.

*** سرحت قليلاً وقالت : لقد أَثرت فضولي،فما هي مهنتك... ارجوك ؟ّ!.قال: ان مهنتي قرآءة عينيكِ الذابلتين،والاسترخاء تحت نخيل اهدابهما.انفجرت ضاحكة حتى انهمرت دموعها من شدة الضحك،و اخذت تتمايل كشجرة باسقة ضربتها الريح وقالت: تُرى،ماذا قرأت فيهما ؟ّ!. قال : قصائد شعرٍ لم تكتب بعد،وروايات لم تُنشر،و حكايا لا تنتهي.مطت شفتيها بدلال وقالت من دون ان تننظر اليه : هل انت شاعر؟!. اجاب بسرعة :هذا شرف لا ادعيه،مع ان لي محاولات متواضعة،لكنني اعترف ان بحار عينيك ستقودني الى مغامرة غير محسوبة العواقب،فاما ان تحملني الى جزر مسحورة،او تقذفني الى شواطئ مجنونة.

*** قالت بلهفة من دون ان تضبط انفعالها: انا من عُشاق الشعر و متذوقية. هاتِ ما عندك و ساحكم على محاولاتك المتواضعة كما ادعيت. ابتسم وقال بصيغة سؤال استفهامي : كيف ارسل لكِ قصائدي.هل اربطها بجناح يمامة ام ارسلها كسمكة محمولةً بمنقار نورس بحري ؟!. قالت والفرح يغطي كامل مساحة وجهها لا بهذه ولا تلك،بل على ورقة ثلجية البياض مضمخةٍ بعطر الياسممين...بالمناسبة هل تحمل ورقة وقلمْ؟!.

*** قال وقد انفرجت اساريره: مقسماّ بـِ ـ كسر الهاء ـ انني لا املك في الدنيا سوى الاوراق و الاقلام،حتى ان هيأتي اخذت شكل قلمٍ جاف اوشك ان ينضب.اخرج من جيبه ورقة وقلما ناولهما لها ويده ترتجف من المفاجاة،وراحت تكتب عنوانها ورقم هاتفها.

*** بعد ايام اتصل بها وقال لها مازحاً: هناك شائعة تدور في البلد،تتهم فيها دائرتكم الموقرة انها تقدم القهوة لضيوفها..ردت بحنان اخاذ:انها ليست اشاعة بل حقيقة مؤكدة...تفضل لتتأكد من صدقيتنا .اقفل الهاتف وانطلق الى موقع عملها.استقبلته بحرارة،جلس مقابلها و اخذا يتجاذبان اطراف الحديث.في هذه الاثناء دخل المراسل العجوز حاملا فنجانين من القهوة.تلاقت عيناهما وهم يسترقان النظر لبعضهما وابتسما ابتسامة لها الف معنى،واصلا الحديث عن الثلج والبرد و افضل وسائل التدفئة.نظر الى ساعته وقال استميحكِ العذر لسرقتي وقتك وهذا حق العمل والناس معاً. رشف الرشفة الاخيرة من قهوته،ثم نهض مستئذناً بالرحيل،نهضت هي الاخرى،وحين مدت يدها لتودعه دس فيها قصيدةً بعنوان "الملهمـــة".