رحلة لبنان، من «النصرة» إلى «الجهاد»

من دون إعلان رسمي، أو "فتوى شرعية” بذلك، تحوّل لبنان من "ساحة نصرة” إلى "ساحة جهاد” ... جهاد القاعدة وشقيقاتها، لا يستهدف حزب الله وحده، بعد أن توسع ليشمل الجيش اللبناني كذلك، المتهم بمطاردة "المجاهدين” وتصفية ملاذاتهم الآمنة، من فتح الإسلام ومخيم نهر البارد شمالاً، إلى الشيخ أحمد الأسير وضاحية عبرا المجاورة لصيدا ومخيمها جنوباً.
حتى قبل أسابيع معدودات، اقتصر جهاد القاعدة بمسمياتها المختلفة، على تفخيخ السيارات أو إرسال "وجبات مميتة” من الصواريخ الموجهة والموقوتة ... ثمة تطور خطير طرأ على أشكال "الجهاد” وأساليبه، بعد أن دخل الانتحاريون على الخط، في حادثة تفجير السفارة الإيرانية، ولاحقاً في مسلسل الاعتداءات على الجيش اللبناني في عاصمة الجنوب.
والأهم، أن بعض "الانتحاريين” لا ينتمي للتابعية اللبنانية أو السورية أو حتى الفلسطينية، كما درجت العادة في عمليات سابقة، انتحارية أو غير انتحارية ... هذه المرة، دخل العنصر البشري الخليجي على خط، حيث المعلومات ترجح أن انتحاري صيدا الذي ضرب الجيش، يحمل جنسية إحدى الدول الخليجية، ما يشير إلى "مركزية” التوجه القاعدي باستهداف لبنان.
تأتي هذه التطورات في ذروة التصعيد والاستقطاب بين مختلف القوى اللبنانية، قبل الأزمة السورية وبفعل تداعياتها ... فيما المصادر اللبنانية الأمنية، تتحدث عن وجود كثيف لـ "داعش” و”النصرة” على الأرض اللبنانية، خصوصاً في المعاقل السنيّة المندمجة بيوميات الأزمة السورية، كطرابلس وعكار والضنية ووادي خالد وعرسال وبعض قرى البقاع الأوسط، ولا ندري إن كانت القاعدة ستعمل في قادمات الأيام على "توحيد صفوفها” في إطار تنظيمي مستقل، أم أن أبو بكر البغدادي سيتعامل مع لبنان كـ "إمارة” ملحقة بدولته الإسلامية في العراق والشام، لا تحتاج لأكثر من فرمان سلطاني بتعيين "والٍ” أو "ولاة” على بعض أعمالها وأمصارها.
هي الحرب الواحدة، تدور رحاها في ثلاث دول كما قلنا وأسلفنا مراراً وتكراراً، نفس الخصوم والخنادق والمحاربين، نفس السحن والوجوه، نفس الخطاب والأدوات والأساليب، نفس التمويل والتحريض والتعبئة والتجنيد، نفس الخطاب والشعارات والمبررات، يبدو أن لبنان قد غادر مربعات "النأي بالنفس”، وبات جزءا من آلة الموت التي تحصد أرواح السوريين في الحرب الدائرة في سوريا وعليها، وامتداداً إلى العراق، الذي يفقد ما معدله ألف قتيل شهرياً منذ مطلع العام وحتى صبيحة يومنا هذا.
يبدو أن القوى الإقليمية التي تخوض الحرب في سوريا وعليها، وفي العراق وعليه، قررت ضم لبنان إلى ساحات المواجهة المفتوحة بين "هلال شيعي” و”قوس سنيّ”، وتحويل عاصمته بيروت، كما دمشق وبغداد، إلى "صندوق بريد” لتبادل الرسائل الدامية، والمفخخات التي لا تميز بين رجل وامرأة، طفل وشيخ، مدني أو عسكري، سنّي أو شيعي، مسلم أو مسيحي.
هو الإحساس بالعجز عن حسم الصراع في بؤرته الأصلية: دمشق، يدفع ببعض عواصم المنطقة إلى توسيع جبهات القتال، شعارها في ذلك، إن لم نستطع قطع رأس إيران في دمشق، فلا بأس من تقطيع أطرافها في لبنان ... لذلك نرى "المجاهدين” وقد يمموا وجوههم شطر بيروت وضاحيتها، والبقاع بقراه الشيعية والجيش اللبناني المتهم بالانحياز لحزب الله، أو على الأقل بالتعامل معه من خارج قاموس السلفية – الوهابية "المُعلّب”.
في البحث عن مبررات لتسويق الجهاد وتسويغه، لا يعدم "المجاهدون” ولا رعاتهم أو ممولوهم، الحيلة والوسيلة ... فحزب الله "مذهبي” في تكوينه، وهو بدوره يقاتل علناً إلى جانب النظام في دمشق، وعلاقته بإيران ليست خافية على أحد ... وهذه عناصر ثلاث، تكفي لتكفيره وإخراجه من الملة، وفقاً لمنطوق الخطاب المذهبي المضاد للسلفية الجهادية، والقائمين على أمرها ومموليها في المنطقة.
ومن المنتظر أن يتواصل مسلسل التفجيرات والاغتيالات في لبنان حتى إشعار آخر، مستفيداً من اشتباك الجميع ضد الجميع في لبنان، ومن فوضى الأمن والسلاح والسياسة في لبنان، ومن فراغ السلطة والمؤسسات الدستورية، الذي يوشك أن يأخذ بعداً أشد خطورة، عندما تحين لحظة مغادرة الرئيس ميشيل سليمان القصر الجمهوري في بعبدا.
كثرة من اللبنانيين، كما المعارضين السوريين من قبلهم، تعاملوا مع صعود "السلفية الجهادية” في بلادهم بقدر كبير من البلادة وسوء الفهم ... بعضهم أراد توظيفها ضد خصومه (النظام في الحالة السورية وحزب الله في الحالة اللبنانية)، وبعضهم الآخر استمرأ الغرق في "حالة إنكار” معوّلاً على فرضية بلهاء تقول أن لبنان غير سوريا، ألم يقول السوريون من المعارضة بأن سوريا ليست العراق، وانظروا كيف انتهت الحال في هذه الدول الثلاث: شبّت القاعدة وتفريعاتها وتفريخاتها عن الطوق، على حساب "المعتدلين” من ليبراليين وديمقراطيين وقوميين ويساريين سنّة، وظل أركان "الهلال الشيعي” على حالهم ... من المجلس والائتلاف الوطنيين في سوريا إلى تيار المستقبل وتحالف 14 آذار في لبنان، جميعهم يصح فيهم القول إنهم باتوا "كالمنبتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”، لقد فقدوا قواعدهم ومادت الأرض من تحت أقدامهم، فيما خصومهم ظلّوا على حالهم إن لم يكونوا قد ازدادوا منعة على منعة، ونقول "منعة” حتى لا نقول "ممانعة”، تلك الكلمة المستفزة لكثيرين.