الشهيدة " نور"غزالة الصبح المغدورة !

بسام الياسين

في هذه الاجواء المتشحة بالسواد،الملطخة بالدم،المفرطة بالتشاؤم من غدٍ مخيف،غدا واجباً وطنياً ملزماً على كل مواطن اردني منتمٍ لوطنه،ومؤمن بربه،يحمل في قلبه عرقاً ينبض بدفقة انسانية،ان لا يكتفي بالاستنكارـ وذلك اضعف الانتماء والولاء ـ على ما يحدث في شوارعنا من ارتفاع منسوب الدم،بل واجب الوجوب وفرض عين عليه،ان ينخرط من دون تلكؤ في الصراع القائم بين المعرفة والجهالة،بين التقدم في المدَنيّة والردة للجاهلية،بين الارتقاء على سلم التحضّر و الانحدار لادنى الغرائز الحيوانية،بين اليأس مما هو كائن و الامل بما سيكون.

*** في هذه المرحلة العويصة،والسنوات التعيسة،اصبح السكوت على الجرائم التي تجري هنا وهناك جريمة اخلاقية. مسؤولياتها الادبية و الاخلاقية لا تقف عند حدود المسؤولين بل تتعداهم لتطال الجميع على راسهم المثقفين وشيوخ الدين و الاعلاميين ورجالات العشائر والكُتاب ،والشخصيات المؤثرة.لم يعد القبول بالامر الواقع مقبولاً، بعد ان وصلت الامور الى ادنى دركاتها سوءاً.فالكل مطالب ان يشمر عن ساعديه للمساهمة في عملية انقاذ الوطن الغاطس في لجة،الجريمة الدموية،تعثر التنمية، بطء الاصلاح، الفلتان الامني، الفساد الذي يقوض الاقتصاد و يفاقم الفقر،الفوضى العارمة.السرقة بمختلف انواعها و الوانها و اوزانها. الوطنية الحقة تستدعي من المخلصين،عدم الاستسلام لليأس،ومواجهة تسونامي الدم بعزيمة قوية،لان اليأس مخالف لنواميس الحياة.

*** سلسلة جرائم دموية أُقترفت في فترة زمنية قصيرة مرت، كانها مشاهد عابرة نشاهدها في مسلسل تركي، ونحن نحتسي الشاي و"نقزقز اللب" على الطريقة المصرية.اقصى ردود افعالنا اقتصرت على لعن المجرم،و إنتظار احداث المسلسل القادم لنلعن المجرم الذي يليه.هكذا تنتهي "القصة / الجريمة"،وكأن الدماء الطاهرة التي نفرت من الضحايا لم تفضح عجزنا،وتدين سكوتنا.طعن الصبية الجامعية "نور" شهيدة العلم والفجر ،ودهس سيدة في بيادر وادي السير بطريقة سادية،ثم قتل شاب في الاغوار و آخر في شارع الاستقلال والحبل على الجرار.جرائم تشكل ادانة صارخة لتربيتنا و اخلاقنا ومنظومة قيمنا.فالمجرم عادةً يدوس القانون والمنطق والعقل و الاعراف والتقاليد.اخطرها انه يرمي مخافة الله خلف ظهره،ويوجه خنجره المسموم لكل ما هو انساني.

*** الكبائر الكبيرة تُقترف يومياً في شوارعنا،وسكاكين الجريمة تعمل على مدار الساعة، كان آخرها هبوط مجموعة من الملثمين من سياراتهم،و اغلاق شارع فلسطين اكبر شوارع اربد ثم فتح نيرانهم في محاولة لقتل اربعيني امام اطفاله،وقبل ان ينجلي دخان اسلحتهم وتبرد فوهات بنادقهم عثر على جثة رجل في شارع الجامعة.لهذا يجب ان لا تنتهي الجريمة بدفن الضحية وعقوبة الجاني،بل الامساك براس الخلل وهرسه،و الا اصبحنا مثل الذي يمسك بالافعى من ذيلها، فلا هو قادر على قطع راسها،وخائف ان يفلتها لكي لا تلدغه.

*** اوضاعنا التي لا تطاق،ولدّت عندنا ظاهرة غريبة على مجتمعنا، ـ ظاهرة الاستنفار الامني ـ اذ اننا انفردنا بها بين دول الدنيا كافة.فالطقس اليومي ينبئ بـ:استنفارٌ في الاعتصامات، في المظاهرات، في الاحتجاجات، في المهرجانات،في الامتحانات،في المستشفيات،في الجامعات،في المشاجرات،في السرقات المائية،في الاعياد الوطنية والدينية،في الانتخابات البلدية،في الانتخابات النيابية،في قاعات الافراح حتى صارت حياتنا قضية امنية.

*** بادئ ذي بدء،علينا الاعتراف في الاردن باننا نعيش مجموعة من الازمات الموروثة تراكمت عبر عقود طويلة، ثم انعكست على الانسان سلوكاً غير سوي وتفكيراً مَرَضياً،جاءت من القبضة الحديدية ايام الاحكام العرفية،تكميم الافواة،التمايز الطبقي المثير للحقد،الديمقراطية الفاسدة،الحرية المنقوصة،التعليم المشوه،الاصلاح البطيء،التنمية المتعثرة،الفساد الذي ادى الى خلخلة الاقتصاد.خلطة من السلبيات زرعت الاحباط لدى الناس،وخلقت شخصيات مشوهة، رغم المظاهر الخادعة من شهادة جامعية،و ربطة عنق انيقة،و بدلة ثمينة.

*** ما العمل؟.العمل باختصار شديد: البدء بثورة بيضاء متدرجة،ركائزها العلم والعمل و الايمان الحقيقي بالوطن. شريط البدء بالتعليم الملازم للتربية،وان تكون أُولى الخطوات الاصلاحية نسف ما هو قائم من مناهج وطرق تعليم قديمة بالية للالتحاق بقطار المستقبل، بعد خسرنا امسنا،وضاع منا يومنا،ولم يبق لنا الا غدنا،مفتاحنا لحياة افضل.فقد انتهى عهد التلقين الببغاوي،وذهب عهد المعلم الذي يمسك اذن التلميذ في قاعة الصف صارخا في وجهه"هل فهمت الدرس ياغبي"،لكن الخوف الاكبر ان يمسك التلميذ اذن معلمه.
ثانياً : اعادة النظر في خطبة وخطباء الجمعة فلا يُعقل ان يعتلي المنابر من يخطئون بابجديات اللغة العربية،ولا يعرفون من الشرع الا الحديث عن النساء الكاسيات العاريات الملعونات،وكم عدد ابواب جهنم،وثواب قتل"ابو بريص" من الضربة الاولى،بينما قامة علمية بحجم الدكتور زيد الكيلاني يلقى ربه وهو ممنوع من هذا الشرف.و تحضرني بهذه المناسبة مقولة شيخنا محمد الغزالي :" ان انتشار الكفر في العالم يحمل نصف اوزاره متدينون بَغَضَوا الله الى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم".
ثالثاً : تغيير الخطاب الاعلامي من اسلوب الفهلوة الى المهنية والموضوعية ونقل الاعلام من اعلام حكومة الى اعلام دولة من دون فبركة.
رابعاً : استقلال القضاء استقلالأ مطلقا وعدم التدخل بشؤونه مباشرة او بالايحاء.
خامسا: صياغة قانون انتخاب عصري ليفرز مجلس نواب، يكون "ضمير الناس حقيقةً" لا زوراً و لا تزويرا.
سادسا: التغيير مبدأ حياتي وسُنة كونية،فالارض تدور لكن مؤسساتنا ظلت جامدة،هي اقرب للتنبلة غير المنتجة،وبؤر مزدحمة تكتظ بالبطالة المقنعة،اضافة للاختلالات الداخلية،و الامراض المستوطنة تلك التي لخصها نابليون بونابرت بالقول:تفسد المؤسسات حين لا تكون قاعدتها الاخلاق.

*** المجتمعات كافة انتقلت من الديمقراطية السياسية الى الديمقراطية الاجتماعية،باستثناء مجتمعنا ما زال يراوح مكانه، بعيداً عن تحقيق العدالة،مما ولدّ نقمة كاسحة على الاوضاع القائمة،وساهم بانتشار الجريمة على طريقة الكاوبوي بالرصاص او قطاع الطرق بالطعنات.الحق الحق، ان الواقع البائس الذي نعيشه ليس من صنعنا ،لكننا ورثناه،انما عيبنا يتمثل بالاستسلام له. لذلك لن يكون لنا مكان ولا مكانة ان لم نبادر فوراً على تغييره.

*** بصراحة مطلقة اننا نعاني اسوأ موجة عنف في تاريخ الاردن ،وارتفاع مضاعف في الجرائم حيث وصلنا الى نقطة حرجة.بمعنى ان العجز عن حل هذه المعاضل من شانه تهديد وجودنا وليس سلمنا الاهلي فقط.لذلك نقترح ان يكون دم الشهيدة "نور العوضات"،خطاً احمر،وعلامة فارقة على درب التحول لمرحلة عنوانها: لا مساومة مع الشر ولا مهادنة مع الاشرار حتى كنس شوارعنا من الزعران،وتطهيرها من الخارجين على القيم والقانون،والبدء بعملية اصلاحات حقيقية لا شكلية لنكون دولة قانون من عيار 24 قيراط لا مدهون ولا مُقلّد .

*** نورغيمة العطر التي ذابت في سمائنا،و شعلة العلم التي انطفأت على ارضنا،وحدها النجوم ظلت ساهرة تشق قمصانها حزنا على ما آلت اليه غزالة الصبح من غدر لئيم خسيس.فهل يُشعل دمها الاحمر القاني المضمخ بالطهارة،ايامنا االقابلات بالنور والتنوير،بعد هذه الفعلة الشنيعة التي هزت السموات و الارض مثلما هزت مشاعر الاردنيين كافة؟.الاحداث الاليمة تقود بحتمية سياقها الطبيعي الى عملية تغيير كبيرة،لانها تصدم الارواح،و تهز الوجدان،وتوقظ الضمائر،وتدفع حتى الجبناء للتحرر من عار السكوت على القبح والجريمة.

مدونة الكاتب الصحفي بسام الياسين