المفاوضات ما بين العبثية والأداة الكفاحية



لم تكن المفاوضات في أي يوم من الأيام، ولن تكون أداة للتسليم أو التراجع أو التنازل عن الحقوق، إلا إذا كانت المفاوضات حصيلة الهزيمة لأحد طرفي التفاوض، والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لم تكن نتيجة هزيمة الإسرائيليين، ولم تكن أيضاً نتيجة الاندحار الفلسطيني، بل سبق وأن أملتها الانتفاضة المدنية السلمية الأولى العام 1987 على طرفي الصراع الفلسطيني والإسرائيلي. 
الإسرائيليون، وعلى رأسهم إسحق رابين ومعه شمعون بيريس، أصحاب القرار، في ذلك الوقت، استجابا للواقع وللفشل، في مواجهة الانتفاضة، ولعدم قدرتهم على ابتلاع الأراضي المحتلة العام 1967، كما سبق وفعلوا عام 1948، لأن ثمن ابتلاع القدس والضفة والقطاع، قبول شعبها والتعايش معهم، أسوة بالفلسطينيين الذين بقوا في مناطق 1948، في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل الفلسطيني المختلطة، ولذلك قررا التخلص ما أمكن من فلسطينيي الضفة والقطاع، والتنازل لهم عن أرضهم، بهدف الحفاظ على إسرائيل نقية من الفلسطينيين، أو على الأقل بأقل قدر ممكن منهم، فكانت أوسلو هي أول خطوة عملية جوهرية بين الطرفين، على الطريق الذي يبدو أنه طويل وصعب، ويحتاج لوقت وتضحيات، حتى يتم الوصول إلى التعايش والندية وصولاً إلى السلام بين الشعبين، في حدود الدولتين، أو تحت غطاء الدولة الديمقراطية الواحدة المشتركة، لقوميتين، متعددة الديانات لليهود والمسيحيين والمسلمين، كما كانوا عبر التاريخ ونتائجه. 
والفلسطينيون، لم يحققوا الانتصار عبر الانتفاضة ونتيجتها اتفاق أوسلو، ولكنهم حققوا خطوة نوعية متقدمة إلى الأمام، من خلال التسليم والاعتراف الإسرائيلي، بالعناوين الثلاثة: 
1- بالشعب الفلسطيني، 2- بمنظمة التحرير، 3- بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، ونقل الموضوع والعنوان الفلسطيني برمته من المنفى إلى الوطن، باستثناء قضية اللاجئين، فقبل أوسلو، كان الجهد والنضال الفلسطيني، غالبه خارج الوطن، وكان عنواناً للصراع بين الأردنيين والفلسطينيين، بين السوريين والفلسطينيين، وبين اللبنانيين والفلسطينيين، أي بين الشقيق وشقيقه، داخل الجبهة العربية الواحدة، بصرف النظر من يتحمل مسؤولية هذا الصراع، وهذا الاستنزاف، أهو الفلسطيني؟ أم الأردني والسوري واللبناني؟. 
الصراع الآن في فلسطين، وعلى أرض فلسطين، بأدوات فلسطينية، في مواجهة عدو الشعب العربي الفلسطيني، الذي لا عدو له غير الذي يحتل أرض الفلسطينيين، ويصادر حقوقهم، وينتهك كرامتهم. 
وأدوات الصراع مختلفة، وتحتاج لتقنين واتفاق، بدءاً من العمليات الاستشهادية التي توقفت بقرار، إلى الكفاح المسلح الذي يُقال عنه ولا يُستعمل، إلى الكفاح الشعبي المطلوب والضروري الذي يتميز بزج كل فئات وشرائح الشعب ضد الاحتلال، إلى المفاوضات التي يجري التقليل من أهميتها، فالكلمة السائدة هي أن المفاوضات عبثية أو عقيمة وهو وصف يعكس موقفين أحدهما أنه ضد المفاوضات من حيث المبدأ، وهذا الموقف ليس له علاقة لا بالسياسة ولا بالنضال ولا بالتاريخ الإسلامي والعربي واليساري، لأن المسلمين ومنذ عهد الرسول الكريم سيدنا محمد عليه السلام، فاوضوا أعداءهم المشركين، والعرب لدى عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد فاوضوا الأميركيين والإسرائيليين والإيرانيين وغيرهم، واليسار وحركته الشيوعية والاشتراكية، فاوضت أعداءها منذ لينين حتى ستالين وماو تسي تونع وهوشي منه، فلا يجوز لسياسي مسلم أو قومي أو يساري، أن يكون ضد المفاوضات مع العدو الإسرائيلي من حيث المبدأ، لأن المفاوضات كما كانت لدى المسلمين والعرب واليساريين وسيلة لفرض الحقوق أو لاستعادتها مثلها مثل الكفاح المسلح أو الانتفاضة الشعبية، وليست وسيلة أو غطاء لتقديم التنازلات أو تبديد الحقوق. 
أما الطرف الآخر الذي لا يثق بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الجارية حالياً، لأنه لا يثق بالمفاوض، أو أن قراءته لموازين القوى تشير إلى عدم قدرتها على الإقرار بالحقوق، وعدم قدرتها على استعادة هذه الحقوق، فهذا موقف ورؤية تستحق النقاش والقبول مثلما تستوجب الجدل، والأخذ والرد وصولاً إلى تفاهم أو أرضية مشتركة، أو برنامج عمل يؤدي إلى تعديل موازين القوى نحو تغييرها، وهذا يعني أن المفاوضات وسيلة كفاحية راقية يجب احترامها طالما أن المفاوض يتمسك بحقوق شعبه، أما إذا كان الاعتراض على المفاوض والتشكيك بالنتائج فهذا أمر يحتاج للتدقيق والتصويب والمتابعة. 
القيادة الفلسطينية بوضعها الحالي، لن تستطيع رفض فكرة المفاوضات، ولن تستطيع إيقافها أو التمرد عليها وضدها لخمسة أسباب: 
أولاً: لا تستطيع التصادم مع الأميركيين والأوروبيين والنظام العربي لأنها ستخسر. 
ثانياً: بحاجة لاستمرار التدفقات المالية لتغطية احتياجات السلطة والرواتب، من الدول المانحة. 
ثالثاً: لاستكمال إطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو في الدفعتين المتبقيتين من 104 أسرى. 
رابعاً: لا يوجد لديها البديل، فالبديل الكفاحي ليس قراراً إجرائياً، يمكن من خلاله تفجير الانتفاضة ضد الاحتلال، بل هو حالة تراكمية تصاعدية تجعل الناس والمجتمع، راغبين ومستعدين للانتفاضة واستمراريتها ضد الاحتلال، وإلا لماذا لا تقوم الفصائل الأخرى بالانتفاضة طالما تطالب بها وتتحدث عنها. 
خامساً: هي في حالة صراع مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي، في ظل تفوق إسرائيلي وإمكانات فلسطينية متواضعة، وفي مسار طويل الأجل، وتراكم خطوات تدريجية، على طريق استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، كاملة غير منقوصة، والمفاوضات هي إحدى أدواتها. 

h.faraneh@yahoo.com