ما بعد مصر؟


هناك من لا يريدون العيش خارج قوانين الطبيعة، وإنما في إطارها وجوهرها، وقد أثبت هؤلاء أن حركة التاريخ صاعدة، وأنه لا يمكن تجميدها عند محطة معينة، وأن قوانين الحراك البشري هي التي تفرض نفسها. طال الزمن أم قصر، وهم الأغلبية دائماً.

 

عكس هؤلاء فإن هناك من يريد البقاء في مواجهة حركة الحياة، ويظنون بقدرتهم على وقف عجلة الكون، ويجدون معهم أتباعاً ومتنفعين من الجهلة، يستخدمونهم أدوات بأثمان بخسة، يشترون منهم عضلاتهم وليس أدمغتهم، للاستقرار في مواقعهم، عبر تسليحهم بالأدوات التي ليس أقلها الهروات وهم الأقلية باستمرار.

 

الذين أصروا على البقاء في الميدان، وإعادة تشغيل عجلة الحياة انتصروا في تونس، وبعدها في مصر، في حين توارى عن الأنظار من كانوا أصناماً ومعهم التوابع من بوليسيين وبلطجية وزعران إجرام الشوارع والبيوت، وشلل المعتدين على شتى أنواع الحقوق.

 

لم تنفع زين العابدين كل أدوات التجبر والاستحواذ والسيطرة عليها، كما لم تنفع حسني مبارك ذات الأدوات، وهي التي كانت أكبر وأعظم مما قيل في وصفها حجماً وتدريباً واستعدادات عمياء لاستخدامها في كل مناسبة، وأي مناسبة مواجهة بين الحق والباطل.

 

لقد اكتشف النظام الساقط في مصر متأخراً أن طائراته ليست ملكه، وأنها لا يمكن أن تقصف الشعب من الجو، وتأخر في اكتشاف كون الدبابات لا تطلق القذائف على حشود الشعب في الميدان، وأن كل ما يمكن الاستعانة به من هروات وقناصة ومندسين قد نالوا فقط من أقل من ألف مواطن ارتقوا بين شهيد وجريح، وأن دماءهم كانت غالية على الشعب، وأنه كلما سال دم جديد زاد الشعب إصراراً على إعادة تحريك عجلة الحياة. ورفض وقفها بشخص ونظام أفسدوا وعاثوا حتى نقطة صفرهم.

 

كان بإمكان نظام مبارك الاستفادة من تجربة زين العابدين، وأن يستبق الأمور، غير أنه لم يفعل، إذ يدرك أن الشعوب لا تغفر لجلاديها مهما حاولوا التراجع والاعتذار، لذا وجدناه مستمراً بالرهان حتى آخر لحظة ممكنة.

 

لقد كان مصير الخيالة والجمالة والمندسين رفساً وركلاً، نالوه عقاباً على رخصهم وبيعهم أنفسهم، وسيكون هناك عقاب لكل من تورط بسفك دم، أو سلب مال، أو اعتدى على حرمات، ولن يفلت من هؤلاء أحد، إذ الضحايا يعرفون الجلادين والمعتدين والمغتصبين وسينالون منهم.

 

سوف تعاد الأموال المنهوبة بما أمكن، وستعاد حقوق لأصحابها، وسينطلق قطار الحياة مجدداً، حاملاً معه المصريين إلى ما هو أفضل.

 

لقد أسقطت الشعوب قبل زين العابدين ومبارك الشاه وفاروق، وغيرهم، وسيظل الحراك مستمراً، وتباعاً، وهو يأتي متأخراً أحياناً، إلا أنه يأتي في النهاية.