مراجعة عاجلة لسياسات التشغيل الوطنية

يواجه المجتمع الأردني تحديات كبرى في سوق العمل بدءاً من ضيق السوق المحلية ومحدودية قدرتها على توليد فرص العمل وبخاصة في المناطق الأقل حظاً، والبعيدة عن العاصمة والمدن الكبرى، مروراً بما يسمى بثقافة "الوظيفة العامة" ذات الحصانة كما يطلق عليها بعض الاقتصاديين باعتبارها مصدر أمان للمواطن مهما تدنت كفاءته ومهنيته، وانتهاءاً بتفضيل العمالة الوافدة على الوطنية في قطاعات اقتصادية واسعة في القطاع الخاص بالدولة..

أما الطوابير المنتظرة على قوائم ديوان الخدمة المدنية فدليل آخر على تخلي الكثير من الشباب الأردني الباحث عن عمل عن قدراتهم في صقل وتكييف أنفسهم لريادة العمل في القطاع الخاص، وهو هروب لم يعد مبرراً في رحلة البحث عن الأمان والمستقبل الوظيفي، فلم يعد التقاعد حكراً على العاملين في مؤسسات القطاع العام كما كان قبل بضعة عقود، فقد أصبح الضمان الاجتماعي يغطي العامل/العاملة في البقالة وصالون التجميل والصيدلية والمخبز ومحطة المحروقات وورش الإنشاءات والحدادة والنجارة و معامل الطوب..الخ ما يعني أن الحماية والمستقبل الآمن بات مضموناً بامتداد مظلة الضمان الاجتماعي لكل الطبقة العاملة في المجتمع، وهي حماية متكاملة تتضمن منظومة تأمينات تغطي العديد من المخاطر المحدقة بالأيدي العاملة، ولا تقتصر على توفير الراتب التقاعدي فقط، وإنما توفر الحماية والمنافع اللازمة في حالات الوفاة وإصابات العمل والعجز والأمومة والتعطل عن العمل، إضافة إلى التوجّه الجاد لتطبيق التأمين الصحي لقطاعات من العاملين والمتقاعدين لا تتمتع بهذا التأمين.. 

من جانب الضمان الاجتماعي، ثمة إرادة وبرامج جادة أخذت طريقها للتطبيق عبر محاور شمول واسعة لشرائح المشتغلين دون تمييز، إضافة إلى توسع في المنظومة التأمينية، ما يدفع كل أردني باحث عن عمل للتوجه إلى فرص العمل المتاحة، والقبول بما يناسبه منها في القطاع الخاص الأكثر توليداً لفرص العمل، فقد شهد عام 2009 توليد (76) ألف فرصة عمل، 67% منها تم توليدها في القطاع الخاص، فيما شهد النصف الأول من عام 2010 توليد (26) ألف فرصة عمل، منها (19) ألف فرصة عمل تم توليدها في مؤسسات القطاع الخاص، وقد قامت مؤسسة الضمان الاجتماعي عبر برنامجها الطموح لتوسعة الشمول في الضمان بشمول العاملين في المنشآت الصغرى، قامت خلال العامين الماضيين بشمول حوالي (40) ألف عامل جديد بمظلة الضمان، ما يعني أن مظلة الحماية تكبر، ويكبر معها طموح الأردنيين المتطلعين إلى مستقبل آمن لهم ولأفراد أسرهم..  

مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق أصحاب العمل بأن يبادروا إلى تشغيل الأردنيين، فالأوضاع الاقتصادية التي بدأت تتشكل في ظل الأزمة العالمية وتؤثر على البلاد، تستدعي شعوراً أعلى بالمسؤولية، وتضافراً أكبر للجهود في سبيل الحد ما أمكن من التأثيرات السلبية للأزمة، وعلى وجه الخصوص الحد من اتساع رقعة الفقر وعدم السماح بمزيد من تآكل الطبقة الوسطى من خلال توليد فرص عمل حقيقة في القطاع الخاص وتشجيع المشروعات الانتاجية الصغيرة التي أثبتت التجربة في كل الاقتصادات العالمية قدرتها على إحداث التغيير الاقتصادي الإيجابي في حياة الأفراد والمجتمعات..

أكرر الدعوة عبر هذا المقال إلى ضرورة المبادرة لعقد مؤتمر وطني كبير للتشغيل الوطني برعاية ملكية سامية، يشارك فيه كبار أصحاب العمل ومديرو الشركات والمشروعات الكبرى والبنوك، والمؤسسات ذات القدرة والملاءة المالية، إضافة إلى تلك المعنية بالتشغيل ورؤساء النقابات المهنية والعمالية، والهدف وضع النقاط على الحروف ومراجعة سياسات التشغيل الوطنية، وبحث التحديات والمعوقات التي تعوق تشغيل الأردنيين، والخروج بحلول عملية سريعة للمشكلة وإيجاد فرص عمل فورية للباحثين والمتعطلين الأردنيين عن العمل..   

الفكرة ليست صعبة بقدر ما تحتاج إلى تنسيق ومتابعة وإصرار، ولعل من أهم عناصر النجاح الاهتمام بموضوع التدريب، وإنشاء مراكز تدريب متخصصة في مختلف مجالات العمل وبخاصة تلك المجالات والمهن التي يشغلها وافدون، وتطوير مؤسسة التدريب المهني، وتغيير أساليب عملها، وتنويع ودعم مجالات التدريب فيها لتشمل مختلف المجالات التي يحتاجها سوق العمل، وعدم الاقتصار على الجانب المهني المحض وحده..

علينا أن نؤمن بأننا قادرون على معالجة مشكلة البطالة في المجتمع، لأن فرص العمل موجودة دائماً، فليس صحيحاً أبداً أن البطالة سببها قلة فرص العمل فقط، وإنما هناك أسباب كثيرة لا تقل أهمية، ومنها مستويات الأجور السائدة، وضعف التدريب، وانتشار قطاعات عمل غير منظمة، والثقافة المجتمعية، وغيرها، كما أن حل البطالة لا يكون فقط بالتشغيل وإنما أيضاً وأولاً بتنظيم سوق العمل، وعدم اللجوء إلى سياسة التشغيل العشوائي، لأنها مؤذية للإقتصاد، وتقود إلى خفض مستوى الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، وتقود إلى تضخم البطالة المقنعة، ولنتذكر المثل الفرنسي الذي يقول: (إن من يعالج البطالة المكشوفة بالبطالة المقنعة هو كمن يتقي البرد بإلقاء بنفسه في النار..!!).