الاختراق
الاختراق عند تعرض أي دولة لإحداث طارئة بعيدة عن البرنامج العام الأوتوماتيكي المفترض للدولة حسب الدستور أو حين تطرأ متغيرات ما باتجاه مخالف لمنهج مراكز القوى وتتعاظم النتائج المتوقعة لهذا الحدث بحيث تشكل تحولات مفصلية في مستقبلها.. لابد لنا هنا من توقع وجود عدد كبير من محاولات اختراق خارجي لعناصر هذه التحولات. وعند استقراء النتائج المتوقعة للأحداث الطارئة وبعيدا عن الانفعال الحماسي المتولد من التمرد على الإحباط العربي العام سنجد أن هناك تأثير للأجندات الخارجية على تصنيع الحدث وإخراج النتائج بالصورة المنمقة واستثمار ولادته كذلك، وتأثير الاختراقات نسبي متفاوت من حدث لآخر حيث يعود ذلك للارتباط المتباين المحتمل بين أطراف الحدث (ما قبله وما بعده) بأجندات خارجية واختراقات سابقة ولاحقة، هذه الاختراقات قد تكون متنافرة ومتعارضة المصالح ولكنها قد تملك نفس الهدف المرحلي دون الالتقاء الاستراتيجي على الحدث، وغالبا ما تستفيد وتستثمر الجهات الراعية للاختراق من حركة الانطلاقة السريعة للحدث الذي قد يكون التراكم الكبير للمحفزات ثم الصدفة بتوقيت الخطوة الأولى (كما حدث في تونس ومصر) أدت إلى خروج هذا الحدث قبل تخريجه. تتنوع معاني كلمة الاختراق ليتدرج معناها بين العمالة الرخيصة لتشكّل أداة منفّذة لدور مجرياته تسير في الظل الموازي للحدث وغالبا ما يكون الدور استخباريا أو تخريبيا وما بين الانحياز المؤدلج والمبرمج من أفراد أو حزب أو تنظيم لخارج منظومة الحدث حيث يكون الراعي للاختراق مختفي ظاهريا عن الساحات عند تكوين الأحداث رغم دوره الكبير أحيانا الذي يساهم في إنشاء الحدث ورغم تتبع المجريات لاستثمار التغيرات المحتملة لصالح أجندته الذاتية وبعيدا عن المغامرة بكشف دوره في ذلك. فإذا حاولنا تحليل الموقف العربي العام وما يدور فيه من أحداث وحاولنا تشريحها لدراسة مدى تناغم المبادئ والبرامج المعلنة مع الفعل ورد الفعل لبعض النخب والأفراد والأحزاب في الوطن العربي نجد أننا أصبحنا نعيش في فوضى عارمة من الانتماءات الفكرية وضبابية الانحياز لكثير من مراكز القرار وكذلك من النخب وطلائع التثوير والتحريك. أن معظم مراكز القوى الرسمية في الوطن العربي ترتبط بمحاور وسياسات وتحالفات علنية وأخرى سرية، في حين أن اغلب المعارضة المعترف بها والغير رسمية والتنظيمات السرية لا تخلوا من الاختراقات والتدخلات والتوجيهات الخارجية أيضا، حيث أن عالمية أو امتداد بعض الأحزاب لخارج حدودها الإقليمية يعطيها الحجة النظرية لممارسة الأجندة الخارجية والاستقواء بها أيضا وبالتالي تبنّي مفتاح الاختراق نيابة عن الخارج. وفي دراسة عكسية لأصحاب المصالح في صناعة الاختراقات للأجندات العاملة في الوطن العربي وفي تشكيل الأجندات والسياسات نلاحظ وجود معسكرين فعّالين متقاطعين في مسارات ومتلاقيين في مسارات أخرى، المعسكر الأول هو المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة ورأس حربتها في الشرق الأوسط الكيان الصهيوني والمعسكر الثاني هو المعسكر الشرقي الإيراني ورؤوس حربتها تبدأ من حزب الله ولا تنتهي عند العراق. فالمعسكر الأول (الغربي الصهيوني ) يقوم ببناء أدوات الاختراق والتوجيه من خلال مراكز الفكر المشبوه بالغالب وما يسمى مراكز حقوق الإنسان والجمعيات المعنية بالتنمية البشرية حيث يتم استيعاب العديد من المفكرين والأدباء والإعلاميين والنشطاء ضمن هذه المراكز لبناء شخصيات راديكالية، بالإضافة إلى قنوات الاتصال الأخرى مع مراكز القوى وتضخيم عمل السفارات في الدول المستهدفة لتصبح من مراكز القرار أحيانا، وكذلك توفير الحوافز الاقتصادية والتشجيعية والابتزازية الفردية لأصحاب القرار في بعض الدول والدفع باتجاه قبول جميع الخيارات المطروحة تحت مسميات الانفتاح والحوار والعقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فيما يقوم المعسكر الثاني أو المصنع الإيراني للاختراقات وتصدير الخراب باللعب على القضايا الوطنية والاستثمار بالكتلة العقائدية حيث يعمل على تصدير نواتج إعادة تجميل وتدوير الفكر العقائدي الخاص به وبما يتناسب مع العواطف الجياشة للجماهير العربية القريبة إلى التدين حيث يقوم على استثمار مسمى الجهاد والإيحاء بعمالة السلطات التي تقع خارج نطاق الفضاء العقائدي الخاص به فقط حيث نجد هذا التناقض في دعم حكومة المالكي في العراق يدا بيد مع أمريكا (الشيطان الأكبر حسب تعريف إيران..!). ويقوم كذلك المعسكر الإيراني باستيعاب الكثير من الحركات الأصولية المعارضة برغم التنافر العقائدي بينها وبين هذه الفصائل والحركات وتحت مسمى العدو المشترك، حيث تقوم بالضرب تحت الحزام لها وابتزازها المستمر لتصبح أداة خراب واختراق بيده كما حصل مع القاعدة التي ساعد في إسقاطها في أفغانستان بالتعاون مع أمريكا واستوعب قسم كبير من قيادتها بعد السقوط في إيران ليستخدمهم ضد الخليج العربي، وكما يحصل مع حماس وجماعة الإخوان المسلمين التي أصبحت أداة إزعاج ليس إلا ووسيلة تفريق ليس على الساحة الفلسطينية فحسب بل في كل الدول العربية. بالإضافة إلى ما سبق فإيران كمخترق أساسي للشرق الأوسط تملك مراكز قوى فاعلة في سوريا والعراق وتملك ناصية حزب الله في لبنان وتسيطر عقائديا على بعض الجمعيات والشخصيات في بعض دول العربية، حيث تعمل وفق تنسيق كامل معها لتكوين حالات اختراق من خلال تجنيد أفراد من هذه البيئات المتطابقة عقائديا معها والمندمجة داخل الجسم العربي لتكوين خلايا نائمة تمتد أياديها بسهولة للتدخل المباشر والغير مباشر في تكوين الحدث بالطريقة الإيرانية في أي وقت تحتاجه وتعمل على تشكيل أي فوضى ترغب بها إكمالا لأجندة الاختراق الأولي للوصول إلى حالة الهيمنة الكاملة حسب برتوكولات الحرس الثوري الحاكم للحالة الإيرانية ذات الأجندة البعيدة المدى. إن إسقاط النظامين في تونس ومصر كانت الخطوة الأسهل وربما الأجمل في الموضوع، حيث سنجد آثار هذه الاختراقات في محاولة اقتناص انجازات هذه الثورات المتألقة ودفعها إلى أكثر من اتجاه حيث ستعمل كل من الأجندتين الأمريكية والإيرانية على استثمار الحدث لصالحهما خاصة وان انهيار هذه الأنظمة السريع شعبيا تزامن مع انتهاء الحاجة لهما محوريا والرغبة في تطوير الاختراق فيهما بعد انحراق أوراقهما برائحة تزكم الأنوف.. ذلك ربما كان المقصود منه عدم إعطاء فرصة كافية للترتيب وتشكيل السدود الوطنية أمام هذه الاختراقات حيث نتمنى من الله أن لا يخيب أملنا في النخب الشريفة التي قادت التغيير في مصر وتونس لتتمكن من استيعاب النتائج بالشكل اللازم لإغلاق أبواب الاختراق والتخريب بالتالي بالتوازي مع العمل على التغيير. جرير خلف