ثقافة الرّق والعبودية


الحرية ثقافة وسلوك قيمي، قبل أن تكون شعاراً وألفاظاً ومظاهر، وكذلك الرق والعبودية فهي قابعة في نفس المرء وقلبه، وثمرة سلوكية لذلك الجبن الذي يحفر في وجدان الإنسان الذي فقد إنسانيته وأهدر كرامته على أقدام المتجبرين الذين يتلذذون بالراحة على أعناق أسراب العبيد وقوافل الرِّق وجموع الجهلاء.
يقال بأن الفراعنة كانوا متدينين، ويؤمنون بالحياة الآخرة ولذلك عملوا على بناء الأهرامات، لتكون قبوراً فارهة عملاقة، تليق بمكانتهم الأخرويةّ، تحوي حوائجهم وزينتهم وممتلكاتهم الفاخرة، ليس هذا فحسب، بل عمدوا إلى حفر أخاديد عميقة على مقربة من الأهرامات لتكون قبوراً جماعية لمئات الآلاف من العبيد وقوافل الرقيق والعمال الذين قضوا نحبهم في بناء الأهرامات، وذلك من أجل أن يكونوا عبيداً ورقيقاً وعمالاً في حياتهم الآخرة كذلك!!
هؤلاء الفراعنة يؤمنون بأنهم خلقوا أسياداً وعظماء، وآن الله خلق لهم جموعاً من العبيد، وطبقات وافرة من الرقيق والعمال والخدم، مما يقتضي السيد لا يلد إلّا سيداً، والعبد لا يلد إلا عبيداً وإماء، وينبغي أن يبقوا هكذا في الدنيا والآخرة.
لقد تسللت ثقافة السادة والعبيد في أصل الخلقة إلى بعض الأديان، عندما بلغ الغرور في بعض رجال الدين حداً عظيماً، يرون أنفسهم من خلاله أنهم الأفضل والأعلى مكانة، والأجل نسباً والأعظم خلقة والأنبل خلقاً وسجية وطبعاً، وأن بقية الناس وظيفتهم الخدمة والطاعة إلى الأبد.
أصبحت ثقافة السادة والعبيد، وثقافة تقسيم المجتمعات إلى نبلاء وعامة منتشرة في أغلب المجتمعات البشرية، وتأصلت هذه الثقافة حتى أصبح يخيل إلى بعضهم أن النبل والعظمة والحق بالسيادة، أمر مركوز في الجينات الوراثية، فهم أصحاب الحق بالسيادة والمال والثروة، وهم الذين يتفضلون على من دونهم بالفتات وسد رمق العيش، بما يجعلهم قادرين على الاستمرار في القيام بدورهم المرسوم في خدمة الأسياد، الذي يقتربون من منزلة الآلهة أو منزلة أنصاف الآلهة عندما ملك قسطاً من التواضع.
لقد بعث الله ذلك اليتيم، الذي ذاق مرارة اليتم والفقر وقلة ذات اليد، الذي كان يرعى الغنم في بطحاء مكة، ليحرر الناس ويعيد إليهم إنسانيتهم المسلوبة، ويعيد لهم كرامتهم المفقودة، وليطلق عقولهم نحو التفكير الحر، المتمرد على قمقم التقليد، وذل التبعية، وجاء ليحرر جموع الناس من ثقافة الرق والعبودية، ويحمل إليهم كلمات الخالق عبر قرآن يتلى ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ))، وصعد النبي الجديد ليطلق صرخة من فوق جبال مكة: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»، وجاء من بعده أبو بكر ليقول: « لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، وحمل الراية من بعده عمر صارخاً: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
من أشد الأخطار على الحرية، أولئك الذين يرفعون شعارات الحرية، وهم يتقمصون أدوار السادة والعظماء ويقلدون بتصرفاتهم الحكام الجبابرة والطغاة المستبدين، ويبحثون عن الأتباع والمصفقين، ويمارسون التجهيل بكل أشكاله ومعانيه، ويبحثون عن مظاهر الأبّهة من خلال مظاهر الاستعباد، المغلفة بقشور الدين والحريّة، ويحاولون تقليد أصحاب المواكب بمواكبهم، ويحرصون على كثرة الحرس والبوابين والحجاب، قبل أن يصلوا إلى مواقع السلطة.
ويخافون من حريّة الكلمة وانكشاف الحقيقة، ولا يطيقون المعارضة قبل أن يخرجوا من صفوف المعارضة، فكيف يكون حال هؤلاء عندما يقبضون على السلطة، ويحوزون السجن والسجّان، والتمكن من إصدار الأحكام.