وترجل الفارس "فضل"
نعم، ترجل الفارس بعد حياة حافلة بالعطاء، هو ابن الشام المباركة. ولد الشيخ فضل عباس في فلسطين، وواصل تعليمه العالي في مصر، وعاش في لبنان وفلسطين، ودرّس في الإمارات، واستقر في الأردن، في كلية الشريعة قبل التحاقها بالجامعة الأردنية العام 1971، ثم في رحاب الجامعة الأردنية، ثم في جامعة اليرموك، وأخيراً في الجامعة الإسلامية العالمية في الأردن، ولا نعده إلا جبلاً راسخاً وقمة سامقة، علماً وأدباً، دعوة ومواقف، آثاراً وتربية. هو من علماء الأمة بحق، وفخر للأردن وفلسطين أن يكون منها هذا العَلَم، نفخر به بين العلماء قديمهم وحديثهم، فإسهاماته وآثاره تدل على عميق فهمه، ورحابة رأيه، وصدق عزمه، وعلو فضله، وحسن منهجه، وشدة بأسه في مواجهة أعداء الأمة والدخلاء على تراثها. هو المربي الحنون، والعالم المتنوع في الفنون، والمتبحر في معالجة المتون، خاض غمار العلم رغم الصعاب، ونال أعلى الدرجات فاستحق الثواب، آثاره مشهودة، وأفضاله غير معدودة، وقلوبنا بفضله للعلم مشدودة، تكلم في التفسير فبلغ، وتحدث في البلاغة فنبغ، هو الأب الحاني، والمربي المتفاني، عزمه في البحث بلا كلل، وجهده في العلم بلا ملل. وبفقدنا للشيخ نتذكر حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث عن رفع العلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساء جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"، أخرجه البخاري ومسلم. فهو بحق من علماء الأمة المشهود لهم، لا على مستوى التفسير وعلوم القرآن فقط، بل في البلاغة والمنطق، وفنون العلوم الأخرى، العربية والفلسفية والتاريخية، وفي الشريعة نفسها فهو جبل في التفسير والفقه والسنة والعقيدة، وزين هذا كله بالقرآن الذي حفظه بإتقان، وجوّده وبذل علمه بإحسان. كان بيته مدرسة بل جامعة، وكان في الجامعة ركناً ومعقلاً، كان مرجعاً وموئلاً، كان مدرسة جامعة للحكمة والعلم والأخلاق والدعوة والغيرة على الأمة وأحوالها، وكان خارج الجامعة للناس نعم الموجه والمربي والمفتي، لم يؤثر عنه أنه جامل في الحق، أو تراجع في مبدأ، أو تردد في موقف، اللهم إلا أن يكون إلى الحق. أذكر وقد أشرف على رسالتي الماجستير وكانت عن غزوة أحد، حيث درستها دراسة قرآنية، تحدثت عنها آيات طويلة في سورة آل عمران، وغيرها من السور القرآنية، وعندما هممنا بالدخول إلى مدرج الشريعة حيث المناقشة، وكان معه أحد الزملاء يقوده إلى المدرج، فاستقبلته ونظرت وإذا بشيء من الدم على وجهه، فلما نبهه الزميل إلى ذلك، تعجب وقال: سبحان الله، هذه هي المرة الأولى التي يسيل مني الدم، وكأنه استشعر موضوع الرسالة التي أشرف عليها، حيث أحد، وحيث الدماء التي أريقت، من النبي الحبيب نفسه، عليه السلام، ومن الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم. يدخل مرة على المحاضرة، وكأن شيئاً من رفع الصوت حدث لسبب ما، فقال مداعباً طلبته: "صحيح أنا فضل، وحسن، لكن عباس"، كان متواضعاً عفيفاً طيب المعشر، يمازح طلبته، ويدخل الموعظة والنصح بطريقة يتقبلها التلميذ بلا تردد ولا تأفف. لما ذهبت إليه في أول لقاء بعد إقرار خطة الماجستير، وكنت أثناءها في الجيش في خدمة العَلَم، ومن هيبته كنت خائفاً ماذا أفعل وماذا أقول، وبعبارات بسيطة أزاح جبلاً عن ظهري، قال ما أقوله لطلبتي الآن ممن أشرف عليهم: "اسمع يا محمد، لا تظن أنك ستجمع علم الأولين والآخرين في رسالتك، ابذل ما تستطيع وأحسن كتابتك وتوكل على الله". يعرف عنه أنه لم يجامل في الحق في أي موقف من المواقف، علمياً وسياسياً وفكرياً، ولا أملك بعد فقد شيخنا إلا أن أقول ما قيل من روائع الرثاء: وقبرت وجهك وانصرفت مودعا بأبي وأمي وجهك المقبور فالناس كلهم لفقدك واجد في كل بيت رنة وزفير عجبا لأربع أذرع فى خمسة في جوفها جبل أشم كبير ولئن قال شاعرهم راثياً قيساً، فإني أحولها لشيخنا الدكتور فضل، قائلاً: ما كان فضلٌ هلكه هلك واحد لكنه بنيان قوم تهدما ولنا عتب كبير على وسائل إعلامنا، فهذا نجم وعلم، هذا جبل أشم، هذا ركن من أركان العلم في العالم الإسلامي، هذا مرجع لا يستغني عنه طالب علم، هذا فخر للأردن، فأين العناية بعلمائنا، وأنا على يقين بأن العلماء وعلى رأسهم شيخنا الدكتور فضل لا يبحثون عن شهرة ولا عن تكريم جهة أنّى كانت، ولكن أما كان ينبغي أن تكون المبادرة من جهات كثيرة في الدولة في أن ترعى علماءها، لماذا يوقر الإنسان في غير بلده، ولا يُلتَفت إليه في داره، أما كان ينبغي أن يكون مثل هذا العلامة قد زين وسائل إعلامنا، وتشرفت الأوسمة نفسها به؟ ولكن يكفيه أنه من أهل القرآن، من أهل الله وخاصته، فجزاه الله عنا وعن العلم والعلماء والقرآن وأهله خير الجزاء، وكفاه فخراً أن له آثاراً تشهد على أنه وإن غاب جسده، فعلمه موجود، وطلبته على العهد باقون. ولا يغيب عن بالي أنه من مؤسسي جمعية المحافظة على القرآن الكريم، الجمعية التي امتد خيرها في ربوع الأردن كله، وانتشر خارج الأردن تعاوناً مع مؤسسات قرآنية كثيرة، ولعل خير هذه الجمعية يرجع إلى مؤسسيها، ومنهم شيخنا الفاضل. رحمك الله رحمة واسعة، وهكذا فليكن العلماء، وعزاؤنا في أن هذه الأمة وإن فقدت بعض علمائها، لكن الخيرية فيها مستمرة، ووعد الله لها بالنصر والعزة لا شك فيه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. عميد كلية الدراسات العليا بالجامعة الأردنية