محكمة أمن الدولة.. للمرة الثانية
نعود للكتابة في هذا الموضوع للمرة الثانية، فقد سبق لنا أن كتبنا بحثاً مطولاً يخص هذه المحكمة، ونشر على الصفحة 26 من جريدة الرأي بتاريخ 16 أيلول 2013، وفي موقع عمون الإلكتروني.
نعود للكتابة، لأن مشروع قانون محكمة أمن الدولة معروض حالياً على مجلس النواب، ومن جهة ثانية، ارتأينا أن ندلي بدلونا، ليكون في ذلك استجابة إيجابية لاتجاه مجلس النواب، في ظل الرئاسة الجديدة، حيث قرر رئيس المجلس إدراج مشروعات القوانين المحالة إلى المجلس على موقعه الإلكتروني، سعياً للاطلاع على مختلف وجهات النظر التي ترد من مكوِّنات المجتمع، وذلك بقصد الاستفادة من مختلف الآراء والأفكار، والوصول بنصوص القوانين إلى أفضل ما يمكن أن تكون، خدمة للمصلحة العامة.
في المقالة السابقة لم نطالب بإلغاء هذه المحكمة، وقلنا لتبقى صرحاً قضائياً مميزاً، تحقق عدالة المحاكمة ولكن للعسكريين فقط. أما أبناء الوطن العاديين، فلا تتحقق عدالة المحاكمة لهم، إلا بوجود نظام قضائي مدني ومستقل. ومثل هذا النظام قام في الأردن بقيام المحاكم النظامية، والتي أُعطي قضاتها الاستقلال. فلا سلطان عليهم إلا القانون.
وهنا لا نرغب في الخوض في تفصيلات هذا الموضوع، ولكن نرغب أن نطرق الموضوع، من زاوية واحدة، هي حق المحاكمة العادلة من وجهة نظر المعايير الدولية.
لقد طالب المركز الوطني لحقوق الإنسان في الأردن، بتعديل عشرين قانونا، لكي تستقيم هذه القوانين مع المعايير الدولية، وعلى رأس قائمة القوانين المطلوب تعديلها، إلغاء محكمة أمن الدولة.
وقبل أيام طالب المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي انعقد في جنيف، طالب بإلغاء هذه المحكمة، لكي يتماشى نظامنا القضائي مع المعايير الدولية.
والمعايير الدولية اشترطت بضعة شروط لتحقيق المحاكمة العادلة، منها أن يكون للمواطنين العادين حرية التقاضي أمام المحاكم المدنية وبكل القضايا. وقد انضمَّ الأردن إلى الاتفاقيات التي نصت على هذه المعايير، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1966. وهذه الاتفاقيات واجبة التطبيق في الأردن. وفي حكم لمحكمة التمييز قالت المحكمة «إن الاتفاقية هي أعلى مرتبة من القانون المحلّي وأولى بالتطبيق». القضية الحقوقية رقم 2353-2007 تاريخ 8/5/1991.
نقترح ولكي نتخلص من هذه الثغرة، التي سببت الكثير من اللغط والنقد، سواء على الصعيد الوطني، أو على الصعيد الدولي، نقترح حلاً سهلاً وبسيطاً، يتلخَّص بالإبقاء على المحكمة، ولكن لمحاكمة العسكريين فقط. أما فيما يتعلَّق بالقضايا الخمس -التي يجوز لها النظر فيها- فتنتقل إلى القضاء العادي لنظرها، وإذا كانت هذه القضايا من الأهمية بمكان، فلا بأس من إنشاء محكمة مدنية خاصة -وتحت أي مسمى- على غرار محكمة الجنايات الكبرى وغيرها من المحاكم الخاصة، المنضوية تحت مظلَّة المجلس القضائي. وعندها يمثل الشخص العادي، المتهم بتهمة من تهم الجرائم الخمس، أمام القضاء العادي، وبذلك تنتهي هذه الإشكالية.
وفي تقديرنا أن مثل هذا الإجراء، ليس بحاجة إلى تعديل الدستور -كما يظنّ البعض- وبالعودة إلى نص المادة 101/2 من الدستور التي تنص على أنه «لا يجوز محاكمة أي شخص مدني في قضية جزائية، لا يكون جميع قضاتها مدنيين، ويستثنى من ذلك جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة».
نرى أن القاعدة العامة تقضي بأن الولاية العامة، لنظر القضايا المتعلقة بالمواطنين العاديين، وبجميع أنواعها، يعود إلى القضاء المدني. والمواطن العادي يجب أن يحاكم من قبل محكمة جميع قضاتها من المدنيين. ولكن النص الدستوري، -جوَّز استثناءً- أن يمثل المواطن العادي، أمام محكمة عسكرية، في جرائم بعينها. وهذه الرخصة التي رخَّص بها المشرع الدستوري، يجوز للمشرع العادي أن يأخذ بها، وينظِّم كيفية استعمالها، بموجب قانون يسنّه من أجل تلك الغاية. ولكن يجوز له أن لا يستعمل تلك الرخصة. وهي تماماً كالمفارقة بين العزيمة والرخصة. فإذا كانت العزيمة تأتي بالأمر المطلق الذي لا يجوز مخالفته. (وفي هذه الحالة كما لو قال المشرع الدستوري لا يجوز للمحاكم المدنية نظر تلك الجرائم الخمس) إلا أن الرخصة يجوز استعمالها، كما يجوز عدم استعمالها.
ومن هنا يجوز للمشرع العادي الحق بتنظيم استعمال ذلك الجواز -الممنوح استثناءً- والإبقاء على الوضع الاستثنائي. ولكن يجوز له أيضاً إيقاف استعمال تلك الرخصة، والعودة إلى القواعد العامة، وإعادة حق النظر في هذه القضايا، للقضاء المدني، صاحب الولاية العامة في القضاء.
والعودة إلى تطبيق القاعد العامة، لا يُعدُّ بأية حالة من الأحوال، مخالفة للنص الدستوري، لأنه لا يتعدى حد إيقاف الرخصة التي منحها المشرع الدستوري للمشرع العادي.
في الخلاصة للراغب في معرفة الحجج التي تدعم عدم الإبقاء على محكمة أمن الدولة بوضعها الحالي، يمكنه العودة إلى بحثنا الذي أشرنا إليه في مطلع هذه المقالة.