الإسلاميون والدولة المدنية
أثارت مجموعة المقالات والحوارات السابقة التي تناولت مصطلح الدولة المدنية وما يتعلق به من مفاهيم ومضامين وظلال، وردود فعل متبانية بعضها يتسم بالاستيضاح ويطلب المزيد من التجلية والتأصيل، وبعضها اتسم بالغضب والاتهامية والتشكيك وعدّ ذلك نوعاً من الانهزامية والارتماء في أحضان الغرب، أو أنه من باب البحث عن رضى القوى الكبرى أو التقرب منها، أو غير ذلك من الإسقاطات الممزوجة بقراءة غير متأنية وغير دقيقة، أو أنها صدرت أحياناً عن بعض الأشخاص غير المختصين الذين أقحموا أنفسهم فيما لا يستطيعون فهمه، أو أنهم أخضعوا أنفسهم لإملاءات الخلاف الشخصي الذين يحول دون الرؤية الموضوعية، ودون التحلي بالحد الأدنى من أمانة النقل وأدب الاختلاف.
لقد حاولت إبراز فكرة الدول المدنية منذ عام 1995م ،حيث تم تقديمها من خلال رسالة الدكتوراة في هذا الموضوع، فهي ليست وليدة الربيع العربي،كما وهم بعضهم! وليست ردة فعل على الحوارات والمناقشات الجديدة التي تطفو على السطح في هذه الأوقات، ولو دقق الغاضبون قليلاً لأدركوا المقصد الواضح الجلي بالتعبير الصريح والألفاظ الفصيحة؛ بأن دولة المدينة الأولى التي نشأت منذ فجر الإسلام، كانت مدينة بذاتها ونشأتها وطبيعتها، وقامت على أساس المواطنة، وحرية الرأي والتعبير، ومبدأ اختيار الحاكم من عامة المكلفين، والاعتراف بالتعددية والتنوع والاختلاف، وحاربت الاستبداد والظلم وكل أنواع التمييز القائم على الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، وأنشأت إطاراً قيمياً حضارياً، وباتت فلسفة شاملة قائمة على أسس التعامل مع النفس والآخر والكون، وفقاً لمرجعية قيمية عليا، تتوافق مع العقل والفطرة، وتتضمن كل المعاني النبيلة.
بمعنى آخر أشد وضوحاً أن الدولة في الإسلام ليست دولة رجال الدين، وليست نسخة عما عرفته أوروبا في القرون الوسطى، التي أوجدت صراعاً بين مؤسسة الكنيسة وبين مؤسسة الحكم والسلطة، مما لم يحدث مطلقاً في تاريخ الدولة الإسلامية منذ نشأتها، ولم نعرف نحن هذا النوع من الإشكالات.
مما يلفت الانتباه أن بعض أصحاب المواقع القيادية في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن انبرى بشكل شخصي ليرد وأقحم نفسه في هذا الموضوع بغير علم في الفقه الإسلامي القديم ولا الحديث، وبغير علم بأدبيات الإخوان المسلمين وفكرهم على الصعيد الاقليمي و العالمي ، فقد كتب القيادي الاخواني المصري «د.عصام العريان « كتيباً بعنوان: الإخوان المسلمون والدولة المدنية، بتقديم من المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين أ.د.محمد بديع، حيث يقول في تقديمه: «والدولة المدنية بمرجعيتها الإسلامية جملة جامعة توضح أصول الحكم في الإسلام كما أسستها الشريعة، وتركت صورتها التطبيقية للشعب صاحب القرار» -ص:8.
الدكتور عصام العريان في نهاية بحتة خلص إلى النتيجة القائلة: «هذه أهم خصائص الدولة الإسلامية في مشروعنا، فهي دولة مدنية تقوم على التعاقدية والمواطنة والبرلمانية، والتعددية والتداولية، كما أنها دولة مؤسسات وقانون» -ص:45.
الإخوان المسلمون في سوريا كذلك أصدروا كتاباً يتضمن مشروعهم السياسي لسوريا المستقبل، جاء فيه النص التالي: «والخلاصة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، تتميز بمرجعيتها الإسلامية المنفتحة». - ص:47.
ينبغي لنا جميعاً أن نقف على الضرر الكبير الذي يلحق بالحركة الإسلامية أولاً، ويلحق بشعوب العالم الإسلامي ثانياً، ويلحق بالفكر الإسلامي الحديث أخيراً عندما يتسلل إلى بعض مواقع القيادة في الحركة الإسلامية العليا بعض الذين عجزوا عن فهم الفكر الإسلامي وعجزوا عن فهم مقاصد الإسلام العظيم، ويعجزون عن فهم فكر الاخوان المسلمين انفسهم !حيث انهم يخالفون ما صدر عن مرجعياتهم العليا صراحة ! ثم يتنطحون للحديث عن قضايا فكرية عميقة ليسوا أهلاً لها لا من حيث التخصص ولا من حيث التجربة والمعرفة بحدودها الدنيا.