هل وصل الفلتان هذا الحد؟

انتشر الفيديو المسجل لمحاضرةٍ لوزير الأوقاف السابق د. محمد نوح القضاة، والذي يشرح فيه كيفية فساد الوزراء في الأردن، بطرق سهلة ومقبولة؛ إذ يغطيها القانون، كما ذكر.معاليه اعتذر عن الكلام بعد أن صدر عنه في محاضرة عامة. لكن ذلك لا يمنع مناقشة حجم الضرر الذي أوقعه، خصوصا أنه رجل الدين الداعية. فمن يستمع إلى "معالي" الوزير في ذاك الفيديو، يظن أن البلد تأسس بالأمس، وأن "الأمور فالتة" من دون حسيب أو رقيب.المبدأ يقول: الحجة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والانطباع الذي خلّفه، في الداخل والخارج، حديث الوزير عن المسؤولين، هو أن الجميع فاسدون، وبغطاء من القانون؛ وكأن الأمر طبيعي ومقبول.لا يعني ذلك أن الأردن خالٍ من الفساد؛ إذ بالتأكيد توجد ممارسات فساد، واعتداءات على المال العام، لكن ليس بالطريقة التي قدّمها الوزير، والتي انطوت على مبالغة وتعميم من دون تفسير أو أدلة.الإعلام يُتهم بأنه وسّع الحديث عن الفساد، وأوقع الضرر بالبلد، رغم أن كل ما قيل في مختلف وسائل الإعلام، لم يصل حد التعميم على جميع الوزراء، فيما حديث الوزير القضاة عمّم، فلم يُبق أحدا بلا اتهام.ما يقوله الوزير، بصراحة، غير ممكن. فإنفاق الأموال لا يتم بالشكل الذي شرحه، تحديدا ما يتعلق بفائض الإنفاق الذي قاربت قيمته 700 ألف دينار في وزارة الرياضة والشباب، إبان توليها في مرحلة سابقة من قبل القضاة. بل يُردّ هذا الفائض بموجب القانون للخزينة، ليعاد تدويره.حديث "معاليه" يوحي أن حالة الفلتان وصلت حدودا ليس فيها قيود، وأن المال العام مستباح، رغم أن "معاليه" جاء في فترة الحراك الشعبي، والمطالبة بمحاربة الفساد.ينطوي الحديث على نوع من الخيال؛ فالمراقبون الماليون، وديوان المحاسبة، وكل الإجراءات البيروقراطية، تختفي فجأة، وكأن جميع مؤسسات البلد التنفيذية والرقابية فاسدة متواطئة.في إحدى الدراسات غير المنشورة، كشفت النتائج أن الغالبية تظن بفساد الأثرياء. وهذه النتيجة مبنية على انطباعات نجمت عن تعميم الحديث عن الفساد، فكيف سيكون رد الفعل حين يقول وزير إن الفساد عملية سهلة ومقبولة، وتناقش في المكاتب الرسمية؟ من سيُقنِع المواطن البسيط بأن عكس ذلك صحيح؟عمليا، يخضع كل مبلغ ينفق لكل وزارة، لخطوات متتالية من الرقابة. ولا يجوز إنفاق مبلغ إلا للغاية التي رصد لها. ورغم أن القانون يتيح إمكانية إجراء بعض المناقلات، لكن ليس بمنحها للوزير شيكا أو نقدا. كما أن الفاسدين أذكياء كما يقال.وصرف المبالغ يخضع لدائرة الرقابة الداخلية الموجودة في كل مؤسسة ووزارة، يليها تدقيق من قبل المراقبين الماليين التابعين لوزارة المالية، وأخيرا رقابة ديوان المحاسبة الذي يُصدر تقارير دورية بخصوص مخالفات الإنفاق في كل مؤسسة حكومية.إن صَدقَ كلام الوزير، يكون الجميع فاسدين، بمن في ذلك الجهات الرقابية! والدولة بكل بنيتها فاسدة أيضا! علماً أن الفائض في المخصص هو أيضاً انعكاس لترهل في الأداء؛ سواء من قبل دائرة الموازنة التي أعطت مبالغ أكثر من المطلوب، أو من قبل الوزير نفسه الذي لم يتمكن من استكمال المشاريع المدرجة في ميزانية وزارته.الضرر الذي تركه الفيديو كبير، لاسيما وقد تم تداوله داخل المملكة وخارجها. واستمرار الحديث والتعميم يعقّد المشهد، ويضر بسمعة البلد، ويخدم كذلك استمرار التهديد بمحاسبة الفاسدين من دون نتائج ملموسة. تعميم الحديث عن الفساد وتوسيع دائرة الاتهام خلال الفترة الماضية، أضعفا نتائج محاربة الظاهرة، وأضرا بسمعة الأردن. والمصلحة تقتضي فتح صفحة جديدة حتى نمضي للأمام.