العراقية ندى كلندوس تكتب أسرار غربتها: نبتت سنابل بابلية على قبري

رغم إجادتها الإنجليزية وقدرتها على كتابة أشكال من النصوص الأدبية والصحافية بلغة الشاعر والت ويتمان، إلا أنَّ الكاتبة الأميركية من أصل عراقي ندى كلندوس اختارت العربية لتكون لغة كتابها الشعري الأول "أنا وصديقتي" الصادر حديثا في دمشق.


في ديوانها تبوح كلندوس كثيرا، ليس اعتمادا على كشف للذات ووضعها تحت مجهر المراجعة والسؤال، بل في تكثيف مدهش للصورة، واختراق للمألوف من التعبير بلاغيا وإيقاعيا أيضا، رغم أنَّ النصوص مكتوبة وفق "قصيدة النثر". ولنراجع صورا شعرية وإيقاعات كالتي يحتشد فيها هذا المقطع من قصيدة "جسد من طين":


"بأكفنا المهشمة


بيأسنا 


بعتماتنا، وهي أمّ لنا"


وفي الديوان، ترد مفردة "طين" ومرادفاتها اللغوية والدلالية: الطمي، نهر الفرات بوصفه طينا خصبا، كثيرا في مؤشر على ارتباط عميق للشاعرة بمكانها الأول، لا بل إنها تعتبر الفرات مثالا، على العاشق أن يرتقي إليه كي يظفر بها: 


"لا 


لم تكن فراتيا


بما يكفي أن 


تكون سرير بنفسج"


هي مأخوذة بالطين، في دلالة على ما تفتقده في مكانها الأميركي حتى وإن كان بهيجا وغامرا بالضوء، ذلك أنَّ الطين هو ما يثبت في روحها وتستقر عليه، فيما هي قلقة حد التأرجح في ريح، وهو نقيض الاستقرار والنمو والتفتح الذي يأتي به الطين:


"أنا من مدينة الضوضاء


مدينة ضلّت طريقها


بنايات وشرفات تملؤها الزهور 


يعبق المكان بعطرٍ


لا يذكرُني بالوطن 


يُزعجني كثيراً الانتظار


ساعتي أوشكت على المللِ"


نلحظ هنا، أنه وعلى الرغم من مدينة بشرفات من زهور، ورغم عطر فوّاح، إلا أنه يظل مكانا لا يعنيها كثيرا، بل إنه "مدينة الضوضاء" إن شئت، بينما هي تقرن وجودها بأشياء تعيدها إلى الوطن، حتى وإن كان هذا سنابل بابلية ترقد على قبرها:


"آه لو تدري


كم مرة احتفل 


هذا 


الجسدُ الطيني بطميك 


الذي قسمه إلى ضدين 


فتعتّق لونك 


على الجرفين


ونبتت 


سنابل بابليةٌ 


على قبري" 


وحين تستحضر طين البلاد وطميها، فهي ايضا تستحضر "صاحب المعطف" الذي كان يخنق تلك البلاد وأهلها بوجوده المتعسف الثقيل، لكنها لا تأخذ البلاد بجريرة "الجالس على الكرسي المرصع بالجواهر"، فثمة قسوة تبعث على جعل الإنسان في مواضع هي الأرذل، لكن هذه لن تزحزح فكرة الخصوبة، فكرة الطين والنهر، الفكرة الرافدينية الساحرة:


"عندما كان صاحب المعطف


جاثما على الكرسي المرصع بالجواهر


كانت أقدامه 


مطبقة على مسقط رأسي


كنت أقبع حينها في أرذل زاوية 


من كتب التاريخ" 


وإذا كان نجاحها المهني والثقافي والإنساني تحقق في مكانها الأميركي، إلا أنَّ ندى كلندوس بقلق من افتقادها حرارة الطين، وخصوبة ما ينبت فيه، وما يتصل به من أنهار تتدفق في الذاكرة والروح، تعتبر وصولها إلى المكان الذي شكل نوعا من الحلم والتحدي بمثابة "النهايات العقيمة":


"هل الوصول إلى قمم الجبال


يجلبُ النهايات العقيمة؟".


هي حيرتها، هي تخاطب ذاتها بوصفها صديقة لها، من هنا كان عنوان الديوان "أنا وصديقتي"، فثمة أنا الواقعية المنغمسة بتفاصيل العمل، والمهجوسة بمتطلبات العيش وفق صرامة "مدينة الضوضاء" وإيقاع ضجيجها، مثلما هي الأخرى "صديقتها" تلك الحالمة، المأسورة بطمي البلاد ومياه أنهارها، وعن هذا الانقسام الروحي، تكتب:


"صديقتي 


تفيض نصف قمر ونجمتين


لكن الدنيا تفيض 


صديقتي ومعها وردتان"


هي المرأة الأخرى: صديقتها، التي إن فاضت فهي تشع ضوء قمر ونجوم، وإن فاضت الدنيا (لاحظ فاضت، بدلالتها المتصلة بالنهر والطمي)، فهي تفيض ذاتها الأخرى الهائمة ومعها وردتان.


رقة متناهية هنا، حتى وإن بدا انقسام الانسانة هنا مؤكدا بين وجود حقيقي لكنه مبعثر، و وجود متخيل لكنه مكتمل:


"يا صديقتي


بعض رسمي، ظلك


وبعض ظلك، وجهي


أعوم دوما بوجهك


وتحتمين دوما


بظلي"


الانقسام الوجداني والكياني هذا يبدو قابلا للتصالح والتوحد مرة أخرى دونما انفصام، ولكن هذا يتحقق في مكان محدد، وليس في افتراضات أمكنة سعيدة مضاءة ومبهرجة، إنه مكان من شمس ونخيل:


"سأذهب الى بعضي


فعلى بُعد شمسين ونخلة


قد ألتقيني". 


ومع كل هذا الانسجام لجهة أن الاغتراب المتحقق في المكان الجديد، والحياة الفياضة بالضوء والمتزمتة بإيقاع يومي متكرر، يقابله خلاص هو العودة إلى مكان يخفق فيه الطين روحا وخصوبة، إلا أن الشاعرة لا تتوصل إلى حل يقيني كهذا، إنه تنتصر لأعمق ما في الشعر حين يعلي الحيرة الإنسانية، ويجعلها رهانه الوحيد:


"أنا 


بين ساعة المنتصف


وساعة العمق في الانكسار".